حينما أقرأ الشعر في عصر صدر الإسلام، أشعر أكثر وأكثر بروعة ووسطية وجمال ديننا الإسلامي، الذي هو دين الحياة، وأدعو بالهداية والسداد لبعض الدعاة والوعّاظ الذين يصورون الدين للشباب على أنه كله مشقة وتعب وزهد في الحياة الدنيا، الدنيئة في نظرهم لدرجة أنها لا تستحق أن نفرح أو أن نستمتع بها. فداك أبي وأمي يا رسول الله. من يقرأ في سيرته، يجد الرقة واللين والمتعة والسلاسة في التعامل مع المسلمين. قرأت الشعر في عصر صدر الإسلام، فذهلت من جمال المعاني، وما فيها من رقة وعذوبة، وتوقفت عند القصيدة التي نالت استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلت في نفسي ليت شبابنا يقبلون على قراءة الشعر في ذاك العصر، وما نفّرهم وزهّدهم فيه إلا النظرة على أنه في ذاك الوقت لا مجال للعواطف والمشاعر، بل كل ظنهم بأنه شعر فتوحات ووصف معارك، وضرب هام. والحقيقة أنه لا يخلو من معان، غاية في الرقة والعذوبة، ووصف للمشاعر والأحاسيس، وما فيها من حب، وعتب، وشجن. من ذلك مطلع قصيدة كعب بن زهير (البردة) وهي قصيدة نظمها في مدح الرسول الكريم، وأعجب بها سيد الخلق، ولشدة إعجابه، خلع بردته وكسا بها الشاعر كعب، كساه حلة مجد لا تبلى، حيا وميتا، وكسا الشعر الجميل، والمعاني الرقيقة أبهى وأعظم الحلل. فأي عاشق، متيم لا يطرب لسماعها! وأي مفتون بجمال الحروف واللغة لا يتيه طربا لها! وأي عاتب، أو مستعطف لا يميل لقراءتها، علاوة على ما بها من حكم ونصائح تروق لكل ذي لب. يقول كعب بن زهير رضي الله عنه في بعض أبيات هذه القصيدة: بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ تَجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ كأنَّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلُولُ. ثم يستطرد في وصف دلال الغواني، وإخلافهن للوعد فيقول: ولا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمْتْ إلاَّ كَما يُمْسِكُ الماءَ الغَرابِيلُ فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ إنَّ الأمانِيَّ والأحْلامَ تَضْليلُ كانَتْ مَواعيدُ عُرْقوبٍ لَها مَثَلا وما مَواعِيدُها إلاَّ الأباطيلُ أرْجو وآمُلُ أنْ تَدْنو مَوَدَّتُها وما إِخالُ لَدَيْنا مِنْكِ تَنْويلُ. ومن جميل ما قاله في القصيدة، استعطافه للرسول صلوات الله وسلامه عليه، بقوله: أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِراً والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ مَهْلاً هَداكَ الذي أَعْطاكَ نافِلَةَ الْقُرْآنِ فيها مَواعيظٌ وتَفُصيلُ لا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوالِ الوُشاةِ ولَمْ أُذْنِبْ وقَدْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقاويلُ هذه دعوة للاستمتاع بقراءة أدب صدر الإسلام عامة، و قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه وأرضاه خاصة، القصيدة التي نالت شرف استحسان الرسول الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.