منظر لا يكاد يُصدَّق.. أرملة تعول خمسة أطفال توفي أبوهم منذ مدة ولا عائل لهم سواها. هي امرأة، لكنها تمارس مهام الرجال في وقت غفل عنها الجميع ونصرها البحر، قبضوا أيديهم فاستغنت عنهم بسمكات قليلة، سكنوا القصور ورضيت بكوخ من القش! إنها الأرملة (فاطمة أبكر) التي تقطن أقصى نقطة في الطرف الجنوبي الغربي لبلادنا، وتحديدًا في (جزيرة قمَّاح بفرسان). الكوخ (الخشبي) مسكنها هي وأطفالها الخمسة، ولا عائل لهم بعد وفاة والدهم إلا هي، ولا مصدر رزق لهم إلا من صراع أمهم مع أمواج البحر. وحين تأتي بصيدها من السمك القليل تحتار بين أن تصنع منه طعامًا لصغارها، وبين أن تعمل على تجهيزه للبيع للاستفادة من عائده الزهيد. هذا بعض ما نقلته لنا الوطن (السبت- 23/12/1432ه- عدد 4068) عن الأرملة فاطمة أبكر. فاطمة تعمل على تجفيف سمكاتها في الهواء الطلق على (حبل الغسيل) في زمن آلات التبريد الحديثة! ومع غروب شمس النهار وفي الوقت الذي يتجه فيه (الرجال) إلى مساكنهم أو شاشاتهم الفضية تقصد (المرأة فاطمة) البحرَ وأهواله، مستقبلة الليل وظلمته، يدفعها أنين صغارها، وتجبرها ظروف الحياة على ركوب الصعاب. هناك تسامر النجوم وتصارع الأمواج كي تصطاد بعض السمكات وتعود بها إلى كوخها الصغير! فأي مأساة هذه؟ وأي قسوة تعانيها فاطمة ومن هم على شاكلتها ممن لفظتهم الحياة وحلَّت بهم نائبات الدهر؟ وأي تغافل لحق بفاطمة من الجهات المسؤولة رسمية كانت أو خيرية؟ وأي ألمٍ يعتصر الفؤاد ونحن نرى ونسمع معاناة إخوة لنا في أرضنا ينهشهم الفقر، وتعصف بهم المصائب فلا نلتفت لهم ولا نمد أيدينا إليهم؟ فاطمة -وأمثالها في تلك الجزيرة الصابر أهلُها- لا تسكن في عالم آخر ولم تنزل علينا فجأة، بل هي منا وتنتسب إلينا، فكيف تجاهلناها؟ وكيف تناسيناها؟ وكيف نهنأ وهي تعاني مرارة العذاب وقسوة الفقر وعيشة الضنك ومطالب خمسة أطفال لا عائل لهم سواها؟ هنا يتبدَّى سؤال بحجم مأساة فاطمة عن الضمان الاجتماعي الذي مُلئت خزائنه بالمال الوفير أين هو منها؟ وإن كانت هي وأطفالها من المشمولين برعايته فهل ما يُدفَع لهم كافٍ ليعيشوا بكرامة ولو على حافة الكفاف؟ وإن لم تكن مشمولة فما هو عذر القائمين على الضمان؟ هل ينتظرون أن تأتيهم هي وأطفالها حتى يقتنعوا بحالها ويصدقوا مقالها فيدرجوها ضمن المستفيدين من عطايا الضمان الاجتماعي؟ ويمتد السؤال للمؤسسات الخيرية والتطوعية أين هي من فاطمة وأمثالها؟ وإن قدَّمت هذه الجهات شيئًا فهل هو كاف لسد الرمق وحفظ ماء الوجه والعيش بكرامة؟ ويمتد السؤال لرجال الأعمال والموسرين الذين يبيتون ويصبحون وخزائنهم ملأى، ويتقلبون في النعيم أنى ولَّوا، أين هم من فاطمة وأمثالها؟ وهل يهنأ لهم بال وترتاح ضمائرهم وهم يرون المأساة ماثلة أمام أعينهم؟ وهل ينتظرون أن يستيقظوا يومًا وقد بلع البحر تلك المرأة وهي في صراعها مع الحياة؟ أم يتحرون ساعة الصمت الرهيب وقد خيم على ذلك الكوخ بمن فيه من أرواح بريئة؟ أم ينتظرون مجيء فاطمة تجرجر أطفالها لتطرق أبوابهم بعد أن تشتد شمس الظهيرة فتسمعهم عبارات الشكوى وتريهم دموع الذل فترِق قلوبهم لها فيخرجوا بضعة ريالات جبرًا لخاطرها؟ ويمتد السؤال للجهات غير الخيرية في فرسان وجيزان أين هي من فاطمة؟ وهل خوف الخليفة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه من تعثر (دابة) العراق خاص به وحده أم أنه قاعدة جليلة لمن تولَّى المسؤولية في أي موقع كان، مهما صغُر أو عظُم حجم مسؤوليته؟ ويمتد السؤال لصندوق معالجة الفقر الذي أخذ شهرة واسعة، وعُقدت عليه الآمال العريضة، أين هو من فاطمة وأمثالها؟ وهل وُجد من أجلها أم أنه مخبوء لأحفادها؟ فاطمة أبكر ليست الوحيدة في تلك الجزيرة التي تعيش حياة البؤس والفاقة؛ ففي التقرير ورد اسم (فاطمة محمد شريف) التي تعيش هي أيضًا حياة شاقة وليس لها من معين في مهنة الصيد سوى بناتها. وما يُقال عن (الفاطمتين) يقال عن كثير من سكان تلك الجزيرة -رجالاً ونساءً، شيوخًا وأطفالاً- التي وبحسب التقرير لا يوجد بها مركز رعاية صحية ولا مياه تحلية، بل لا يوجد بها سوى (3) سيارات فقط ظهرت إحداها في التقرير ب(شاصين وعجلات تقادم عهدها وغمارة متهالكة) وبقية أجزائها أتى عليها الصدأ نتيجة تقادم عمرها الذي قارب (30) سنة! فرسان بجزرها المتناثرة -وغيرها من قرى الجنوب- بحاجة لوقفة جادة تنتشلها من حالة الفقر والتأخر في التنمية، بحاجة لتوجيه البوصلة إليها بشكل مباشر ومستمر؛ حتى تلحق بغيرها.