في مساء يوم الأحد التاسع من ذي الحجة لعام 1368ه، الثاني من أكتوبر لعام 1949 كانت الانطلاقة الأولى للإذاعة السعودية، وفي 30/12/1386ه افتتح الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- المبنى الأول لإذاعة جدة، ولا يزال قائمًا. وفي هذه المناسبة التأريخية كانت للملك الشهيد كلمات مشهودة مسجلة بوضوح بالصوت والصورة، تحدّث فيها -يرحمه الله- عن المسؤوليات الجسام لهذا المرفق (أي الإذاعة) لأنه يدخل في كل بيت، ولابد من أن يسخّر في خدمة الدِّين، ثم الوطن والشعب، كما أكّد عليه الفيصل -رحمه الله- وهذا المبنى الشامخ الذي افتتحه الفيصل له فضل -بعد الله تعالى- على كثير من الإذاعيين السعوديين الذين أتقنوا صنعتهم بين أروقته العتيقة. وقد أُحيل إلى التقاعد في جزئه الإداري قبل سنوات قليلة، وبقي جزؤه الفني المتمثل في الاستديوهات عاملاً حتى اليوم بكفاءة واقتدار، ولازلنا نسجّل فيها حتى اليوم. وما أشبه الليلة بالبارحة، فكما افتتح الفيصل -رحمه الله- مبنى الإذاعة الذي كان مفخرة قبل حوالى نصف قرن، افتتح نجله الكريم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة مجمّع إذاعة جدة ليلة السبت السابع عشر من ذي القعدة لعام 1432ه، يرافقه صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز محافظ جدة، وبحضور معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة، وكبار المسؤولين في الوزارة. وشهد الحفل حضورًا حاشدًا من الإعلاميين والمثقفين عمومًا، والمسؤولين في إذاعة جدة خصوصًا، يتقدمهم سعادة الدكتور عبدالله الشايع مدير الإذاعة. إضافة إلى العاملين والعاملات، والمتعاونين والمتعاونات مع الإذاعة، وجمع من الضيوف من داخل المملكة وخارجها، بحيث غصّ السرادق المتنقل الذي أعد لهذه المناسبة بالحاضرين الذين ملأوا الفناء الأمامي له كذلك. وقد بيّن سعادة وكيل الوزارة المساعد لشؤون الإذاعة في كلمته للحفل أن هذا المجمع الضخم يضم أحدث تقنيات العالم في البث الإذاعي، وأن افتتاحه، وبدء العمل فيه يأتيان في توقيت مناسب وفي زمن تغيّر فيه الخطاب الإعلامي. كما بيّن سعادة وكيل الوزارة للشؤون الإعلامية، المشرف العام على الشؤون الهندسية أن هذا المشروع الكبير يأتي ضمن سلسلة من المشاريع المماثلة في المملكة التي ترمي إلى الانتقال إلى النظام الرقمي، وقد طُبّق ذلك في إذاعة الرياض، إضافة إلى الانتهاء من مراكز إنتاج في كل من تبوك وحائل وجازان، والبقية تأتي في كل من عرعر والجوف والباحة ونجران. وقدم سعادته عرضًا مرئيًّا عن أبرز ملامح المشروع، الذي يضم مبنى الاستديوهات الإذاعية، ومبنى الخدمات، ومبنى المسجد، وأعمال تنسيق الموقع العام من البوابة الرئيسة، وغرف الحراسة، والبوابات المحيطة، والأرصفة، ومواقف السيارات، وأعمال الزراعة، وتنسيق الموقع، والأسوار في الموقع العام، بالإضافة إلى أعمال الخزانات، والشبكات الأرضية للشرب، وإطفاء الحريق، والري. وقد نُفّذت المرحلة الأولى على مساحة 14000 متر مربع، وهي مساحة هائلة، ومن أهم ملامح المشروع الفنية إنشاء غرف الاستديوهات التي تقوم على التحكّم بغرف معزولة تمامًا عن باقي المبنى، بحيث لا ينتقل الصوت منها، أو إليها كلية وتسمّى بالإنجليزية (Box In Box)، أي غرفة داخل غرفة، وهو ما نُفِّذ فعليًّا. وبالمشروع مبنى متميّز للخدمات يتكوّن من دور أرضي فقط على مساحة ألف م2. وبه منطقة خاصة بالمحولات تحوي عشرة منها، وضمنها محوّل احتياطي. إضافة إلى منطقة خاصة بالمولدات، وغرفة للتحكم الكهربائي، ولعل مبنى المسجد يكون واسطة عقد المشروع، فمساحته الإجمالية 600م2، إضافة إلى ساحة واسعة، ناهيك عن الأسوار والبوابات حول مباني المرحلة الأولى. أقول -وبالله التوفيق-: إنه لا يخفى على كل مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن إذاعة جدة هي رائدة العمل الإذاعي في المملكة، وهي -ولا شك- من رائدات العمل الإذاعي في العالم العربي كله، مع أن البث الأول بدأ في مكةالمكرمة قبل ما يزيد عن ستين عامًا مضت حين بني أول استوديو في مطلع السبعينيات الهجرية فوق جبل هندي بمكةالمكرمة (ثم انتقلت الإذاعة من بعد ذلك إلى جدة)، مع مبنى صغير في حي الشبيكة الأثير في العاصمة المقدسة، وفي تلك العهود المتقدمة كانت معظم الدول العربية لا تزال مستعمرة، واستقلت بعد ذلك بعشرين عامًا. وظهرت إذاعاتها الوطنية تباعًا، ولم تكن الإذاعة السعودية الوليدة أقل منهم مستوى، أخبرني بذلك شخصيًّا واحد من روّاد الإذاعة السعودية الأوائل، هو الأستاذ الشاعر الكبير طاهر زمخشري، الذي عشتُ معه يومًا بيوم على مدى عام كامل: 1984م في لوس أنجلوس بأمريكا، حين كان في رحلة علاجية مع ابنه د. فؤاد. وهذه الريادة في الماضي تُضاف إلى سبق في الحاضر، حين حصدت الإذاعة السعودية عمومًا، وإذاعة جدة خصوصًا عشرات الجوائز العالمية، كثير منها كان في العامين الماضيين. وإن كانت هذه الجوائز الكبيرة قد حُصدت والإذاعة لا تزال تعمل في مبناها القديم، فلا شك في أن أضعاف هذه الجوائز ستُحصد -إن شاء الله- في فترة العمل المقبلة في المجمّع الجديد، ليس بتقدم التقنية فقط، بل بكفاءات الإذاعيين والإذاعيات السعوديين والسعوديات يتقدّمهم د. عبدالله الشايع، وبدعم غير محدود من معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة.