قبل أسابيع كتبت عن سقوط بغداد وقارنته بما أسميته ارتقاء طرابلس إلى آفاق الحرية .. في بغداد دخلت قوات أجنبية غازية قامت بكل شيء بما في ذلك إسقاط تمثال الدكتاتور في ساحة الفردوس.. أما طرابلس فلقد ارتقت على يد أبنائها الذين لم يدخلوها فاتحين بل دخلوها محررين مهللين مكبرين.. ولو قال قائل إنهم دخلوها تحت أجنحة طائرات حلف الناتو قلنا نعم ولكن طائرات الناتو لم تكن لتحرر طرابلس لولا عزيمة أبنائها وصمود أبناء مصراتة وشجاعة أبناء بنغازي. ولكنني بعد ذلك تذكرت مدرساً للغة العربية كان إذا أعجب بشي عبر عن إعجابه بترديد عبارة « يا خسارة! يا خسارة! « فعندما استفسرنا منه عن سبب هذا التحسر وكيف يمكن أن يكون فيه تعبير عن الإعجاب كان يذكرنا بقول الشاعر: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان ثم يردف قائلاً لقد أعجبني هذا العمل لأنه بلغ التمام الذي لا يعقبه إلا نقصان، أو كما يقول المثل الشعبي الدارج « الزين ما يكمل! « تذكرت كل ذلك وأنا أتابع مشاهد أسر العقيد معمر القذافي وكيفية التعامل معه وتوجيه الاهانات واللكمات إليه ثم في النهاية إعدامه بطريقة ارتجالية لا تتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ولا مع الأعراف والمواثيق الدولية، وكذلك كان الأمر مع نجله المعتصم الذي صورته الكاميرا أسيراً يتحدث مع سجانيه ثم تنتقل الكاميرا لتظهره قتيلاً مضرجاً بدمائه، ولعل مصير وزير الدفاع الليبي أبي بكر يونس لم يكن أفضل من سابقيه. هذا التعامل مع الأسرى في سرت كان سقوطاً مدوياً للثورة الليبية، وكان وصمة عار في جبينها وإشارة إلى أن من ارتكبوا هذه الجرائم بحق أسرى فقدوا القدرة على المقاومة والدفاع عن أنفسهم لا يختلفون كثيراً عن الطغاة الذين ثاروا عليهم، وقد يقول قائل إن القذافي لم يكن يستحق الرأفة ونرد عليه بقول الله سبحانه وتعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى «، والقضية أيها السادة ليست قضية فرد بل هي قضية قيم ومبادئ وقضية تتعلق بما هو نوع الوطن والمجتمع الذي يسعى الشعب الليبي إلى إقامته والذي يستحق أن تبذل من أجله التضحيات التي بذلها، كما أن القضية تتعلق بما إذا كانت الثورة الليبية اليوم هي عبارة عن جماعات مسلحة متناثرة كل منها تعمل بقوانينها ومزاجها أم أنها تمثل نسيجاً مترابطاً منضبطاً له قيادة موحدة قادرة على أن تتعامل مع الظروف الحرجة خاصة وأن القيادة كانت تدرك أن معركة سرت حاسمة ولعلها كانت تعلم بأن المجموعة التي كان الثوار يطاردونها لبضع ساعات كانت تشتمل على صيد ثمين كالقذافي أو أحد أبنائه. القيادة الليبية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تثبت للمواطن الليبي والعربي أن القيم التي تسعى الثورة إلى إعلائها تختلف جذرياً عن قيم القذافي وأن عدالة النظام الجديد لا تطارد الهاربين ماصورة ماصورة مثلما هدد القذافي بمطاردتهم زنقة زنقة وإنما تتعامل مع الأسرى والمعتقلين بل وجثث الموتى أيضاً بما تفرضه مبادئ الإنسانية من احترام للنفس البشرية لا أن يصبح الأسرى موضعاً للتعذيب والانتقام ثم تصبح جثثهم مسرحاً للفرجة.