ليس غريبًا بأي حال من الأحوال أن تكون هناك سمات جمالية مشتركة بين فنون المناطق الجغرافية المتجاورة، بل إن هذا التجاور الجغرافي أدعى لوجود كثير من المشتركات، والسمات المتشابهة بين شعوب هذه المناطق، وبالتحديد فنانيها بوصفهم الأقدر على تصوير بيئتها والتعبير عن مكنوناتها بالريشة واللون، وسيكون هذا التشابه أكثر ما يكون قربًا وتلاقيًا عندما تكون الحدود مفتوحة أمام حركة الفنان دون قيود، كما هو الحال في دول مجلس التعاون الخليجي.. ليبرز الجمال متنوعًا يحمل في جيناته الإبداعية تفرد البلد الذي منه أطل، مشتركًا مع إبداع البلدان الخليجية الأخرى في سمات دالة على هذه البقعة الجغرافية.. وما على الباحث عن هذه التفرد الجمالي في إطار المشترك الخليجي الجمالي إلا أن يقف على ذلك في ملتقى الفنون البصرية لفناني دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي احتضنه مركز تسامي للفنون بجدة.. ليقف بنفسه على ذلك، وليخرج بما يراه هو بعينه دون ظلال من أحد. نعم لقد انقضت الفعاليات المصاحبة المتمثلة في البرنامج الثقافي منذ الأسبوع الماضي بعد أن بدأت يوم الأحد واختتمت يوم الخميس، غير أن المعرض الذي قص شريط افتتاحه الدكتور ناصر الحجيلان وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية، ما زال قائمًا، عارضًا إبداعًا خليجيًا صرفًا يحلق بأجنحة التصوير الفوتوغرافي والخط العربي والفن التشكيلي.. مجريات البرنامج الثقافي لثلاثة أيام خلت جرت فعاليات ثقافية متعددة في سياق هذا الملتقى انطلقت صباح الاثنين بورشة فنية بعنوان «ورشة في التشكيل والتجربة الذاتية» قدمها الفنان التشكيلي السعودي محمد حيدر، مستعرضًا تجربته الخاصة والثرية مع الفن التشكيلي، ومساءً كان الموعد مع الدكتور هشام مغربي لحديث فرّق فيه بين التصميم الرقمي والفن الرقمي، كما تناول أهمية تطوير الفنان لأدواته وحاجاته لمواكبة عصره ومجتمعه، متحدثًا كذلك عن تجربته الشخصية في الدمج ما بين الفنون الرقمية والفنون التقليدية وقد صاحب ذلك عرض مرئي. يوم الثلاثاء استهل كسابقه بورشة عمل في اتجاهات التصوير المعاصر قدمها الفنان الفوتوغرافي سلطان منديلي، تناول في ثناياها مواضيع التصوير التقليدية والمعاصرة والموهبة الفنية واكتشافها ورعايتها وتطويرها، وتأثير العوامل الحديثة علي فنون التصوير خليجيًا ومحليًا، تبعتها مساء ورشة أخرى في التصوير الفوتوغرافي بعنوان «قصة تحكي»، قدمها الفنان الفوتوغرافي سعود محجوب، تحدث عبرها عن مجالات التصوير والاختلاف الجوهري بين التصوير الفيلمي والتصوير الرقمي كما قام بعرض الأعمال الفوتوغرافية الفنية المختلفة، كما أقيمت ورشة في الاتجاهات المعاصرة في الخط العربي قدم فيها الخطاط إبراهيم العرافي خلاصة خبرته في تدريس الخط العربي بطريقة مرحة وسلسة وجدت التفاعل من الحضور، حيث دفع الجميع إلى ممارسة فن الخط في جو حماسي مرح، أعقبت ذلك رشة عمل بعنوان «التصوير الفائق السرعة» قدمها المصور خالد بن عفيف، ومن الورش التي أقيمت ضمن الفعاليات، ورشة في التشكيل بين الأكاديمية والمعاصرة قدمها الفنان التشكيلي راشد الشعشعي، استعرض فيها مجموعة من المحاور منها الإنسانية والفن وتعريفات الفنون ومصطلحاتها، وعرج فيها على الأكاديمية ومعناها، وأدرج مراحل للتعبير من مخرجات الشعور والإحساس ودرجاته، وخط الزمن للممارسة الفنية حتى وصل لمراحل نمذجة للممارسة الفنية كمراحل خط الإنتاج، وختم بمجموعة كبيره من نماذج الفن وتياراتها والمدركات الفكرية والجمالية لها. ثم أقيمت أمسية ثقافية بعنوان «تكيف الفنون البصرية مع فكر ما بعد الحداثة والعولمة» قدمها الناقد خالد ربيع. أما الناقد عوضة حمدان الزهراني فقد حاضر عن البعد الزمني والأخلاقي في العمل الفني، ومما جاء في محاضرته قوله: الفنان الجيد الحذق الفطن يعرف ما يعنيه الزمن في التجربة الإنسانية الأصيلة، «إنه الفرق بين الوجود والعدم»، ولن تكون هذه المعرفة من فراغ إلا بتغيير الصور النمطية عن الفنان ليس كمستهلك جيد للوقت ولأدوات الرسم والتصوير والتقنية فقط لكنه قبل مالك لقدرة حسية وعقلية هائلة ومستهلك جيد للمعلومة والذكاء الفني. وحين أقول تجاربنا الفنية فإن المسألة هنا تأخذ بعدًا معرفيًا يتقاطع فيه الإنسان مع مجموعة كبيرة جدًا من المعلومات والخبرات والأفكار والرغبات واليوميات القاهرة والتحولات النفسية والاجتماعية والحجات والأحلام وفي شتى مجالات المعرفة والتجارب البصرية لكي يستطيع أن يسجل الزمن الحقيقي للحظة الفنية. ويمضي الزهراني في حديثه مضيفًا: لم أقصد الزمن الذي تحققت فيه الأعمال الفنية أو ما يعرف بعصر العمل أو الفترة التاريخية التي أنتج فيها ولم أقصد زمن العمل منذ إنتاجه حتى فترة اندثاره -ولم أقصد زمن استغراق إنتاج العمل أو تحوله؛ لكن هناك بعدًا أقصده في تجاربنا التشكيلية وهو زمن ركود التجربة الفنية وموتها وإعادة تسويقها لعشرات السنين وخاصة عند نخبة من الفنانين الذين يمثلون مقصدًا للكثيرين من طلاب الفنون والباحثين عن متعة الفن بل ويتصدرون كثيرًا كطلائعيين ومبدعين. ويضيف عوضة: إن الجمالي لا ينتمي إلى الإحساس والمتعة واللذة وتحقيق الذات بل يتعداه إلى أخلاق الموضوع الذي يتميز بنزعة فلسفة أصحاب القيم والتي يجب أن تقرر المفيد والخلاق لعنصر الإنسان وتبتعد عن الأحلام والتهويل والمبتذل. لقد أصبح التكرار الممل الذي ادخل الكثير من التجارب الجادة مرحلة الصباغة اللونية والتسطيح سلوكًا أخلاقيًا قبل أن يكون فنيًا سيئًا وتستر الكثيرون خلف وهم المعاصرة الذي أدخلهم في نفق الإحساس بفقدان الهوية الفنية الذي أصبح يلازم الفنان الجامد أو المتقلب على أساليبه الفنية فلا نجد في تلك التغييرات ما يصلهم بتجربتهم الأولى أو يعكس تنامي خبرتهم المعرفية بما ينتجون. وقد أورد كانديسكي قوله إن: ضرورة الفن قائمة فيه وتترجم هذه الضرورة عند حدوث تغير هام على عدة مستويات إلى فعل فني يحمل أدلة حتمية على قيمة هذا التغيير، ما نؤكده أن الفن التشكيلي هو نتاج معرفي وتجريبي له صبغة إنسانية عظيمة وله زمنه الذي يفترض أن يكون وله أخلاق النجاح التي تدفع به إلى الثبات نابع ممن له فكر متخصص واعي وهذه الآلية تزدهر وتنمو مع نمو المعرفي والعلمي ومحاولة فهم المتغير والثابت في الثقافة البشرية. قراءة نقدية واختتمت فعاليات الملتقي بأمسية ثقافية بعنوان «قراءة نقدية لأعمال ملتقي الفنون البصرية لفناني دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية» قدمها الفنان الناقد عبدالله إدريس وأدارها الفنان الناقد الدكتور سامي المرزوقي حيث تحدث إدريس بقوله: كثير من هذه الأعمال عبارة عن تجارب أولية لم تكتمل عناصرها ومكوناتها في مشهدها البصري، وأرى أن العمل الفني عند قراءته يجب أن يومئ بإشارات تحدد انتسابه التشكيلي من خلال توفر بعض الشروط حتى يمكن تحديد الأدوات التي تفك شفراته، وأيضًا الأدوات الإجرائية التي تتناسب مع هذا النص التشكيلي. وأني استغرب كغيري أن تأتي معظم المشاركات في هذا الملتقى دون المستوى، حيث يفترض أن يكون الملتقى انعكاسًا لواقع الحركة التشكيلية في دول الخليج العربية ومجلس التعاون، وقد بات من المؤكد وجود إبداع واعٍ وفعال على المستوى العربي.. إذًا لماذا غاب كثير من الأسماء الفاعلة عن الملتقى؟. ويتابع إدريس حديثه عن الأعمال المعروضة بقول: السؤال الذي يطرح نفسه أمام مثل هذا الوضع هل أمامنا أعمال يمكن قراءتها، هل بالفعل توجد أعمال تستحق أو هي تتقاطع مع الرؤية النقدية؟ ماضيًا للإجابة على ذلك بقوله: حقيقة كل ما نراه ونشاهده أعمال ولوحات بعضها تحيط بها البهرجة البصرية والتأنق بمشاهد التزيين، وأخرى خلت منها الخبرة والنضوج، وكثير منها تواكب ما هو سائد ومألوف ومباشر، وانتهاء بالأعمال المتأثرة بأساليب وأعمال معروفة وفنانين لهم خصوصيتهم.. ما قصدته بالأعمال المستغرقة في البهرجة البصرية والتأنق وتجد لها صدى واهتماما ومبيعات واستحب أصحابها هذا الوضع، هي أعمال ولوحات تستأنس أسلوب التقليد وتستعير جزئيات من أعمال آخرين، ويقوم الفنان صاحب هذا الأسلوب بعملية (تمويه) وخداع بصري خاصة تلك الأعمال الحروفية، التي نشم من خلالها روائع نجا مهداوي وضياء العزاوي وغيرهما ممن فتحوا للحرف العربي آفاقًا وأبعادًا توقفت عندهم ثم جاء هؤلاء المقلدون ليطلق عليهم تلامذتهم صفة الريادة.. مثل هذه الأعمال تأتي متناسبة مع مقاييس المسابقات المقامة في داخل المملكة ودول الخليج حيث اللجان التي تجمدت رؤيتها في حدود إطار المفاهيم التقليدية، من ذلك ثنائية «التراث والمعاصرة» هذا الخطاب المطروح من نشأة الحركة التشكيلية المحلية هو عبارة عن (مانشت) فُرغ من محتواه الفكري وأبعاده الثقافية حتى باتت عبارته الشهيرة (شاهد قبر)، وكان أمام ممارسي الفن التشتت نتيجة العمل تحت مظلة خطاب شعاره (التراث والأصالة) مما عطل النتائج الجمالية الخلاقة في أعمالهم! لقد ولدت هذه الثنائية التي تمثل الخطاب الثقافي لواقع التشكيل المحلي الى جانب سؤال دائم ومستمر متعلق بالهوية مما خلق نوعا من التشتت وجعل المبدع في حيرة من أمره خاصة وهو يعيش عصر الانفتاح وثورة الاتصالات والتقنية والمعلومات. ويواصل عبدالله إدريس نقده لأعمال الملتقى مضيفًا: لدي سؤال محال للجهة التي أوجدت هذا الخطاب المتمثل في مقولة (التراث والمعاصرة) وهو الخطاب الملتبس والغامض، رغم الايجابية في داخل هذا الخطاب.. كيف ينهض البعد الفكري في اتجاه وأبعاده لتعميق المفهوم الفكري والثقافي وفتح فضاءات جديدة للمبدع؟، أقصد هنا أن ينهض الخطاب على أسس فكرية وثقافية تعتمد على مرجعية تستمد جذورها من الواقع البيئي والاجتماعي والثقافي المعاش.. وهو ما يغيب من أي توجه لدى الجهة المسؤولة عن الثقافة. نحن بحاجة لدراسات تعمق مثل هذا الفكر وهذا الخطاب إن كان يتناسب مع واقع العصر الحديث طالما أنه شعار لدى الجهة المسؤولة عن الثقافة. ويخصص إدريس الحديث عن بعض اللوحات والأعمال بقوله: إزاء الأعمال المشاركة في الملتقى وفي سياق تناولها وقراءتها.. لا نجد غير هذا الجفاف حيث تغيب الخصوصية والتفرد، باستثناء بعض الأعمال القليلة جدًّا التي حاول أصحابها طرح رؤية مغايرة، فعمل الفنانة علا حجازي والذي ألبسته طقسًا شعريًا ومحاولتها للخروج من إطار اللوحة إلى فضاءات متعددة شد اهتمام ومتابعة الكثيرين، ولم يلق بالأمر لدى اللجنة المحكمة. وعمل آخر للفنانة البحرينية هدير البقالي محاولة جيدة لتوظيف (الكولاج) ضمن الجمل اللونية ولو أن أعمالها تضج بالبهرجة اللونية التي تخفي أو تضيع خاصية استعمال الكولاج ومفهومه كعنصر مضاف للوحة الملونة. وأيضًا شدتني لوحات الفنان عبدالرحمن المطاوعة لديه محاولة لم تتضح بعد لإيجاد أو الوصول لرؤية بصرية متفردة وان كان التأثر بأعمال فنانين من الخليج واضحًا. وسامي الحسين: أحد فناني الشرقية قدم أعمالًا في السابق قبل سنوات تدخل في حالات من (الفنتازيا) باستعمال التضخيم والتجسيد ومعايير الواقعية التي تبحث في المخيلة لما هو فوق الواقع ولكنه أخفق في أعماله الأخيرة وقدم لوحات بألوان قاتمة لا تبحث عن شيء كما يبدو.. وختم إدريس حديثه بقوله: في سياق التطرق للمستويات المتواضعة التي نشهدها في المسابقات والمعارض التشكيلية والتي نتبناها الجهات المسؤولة عن الثقافة يرجع هذا التدني في المستوى من المشاركات وليس العملية التنظيمية الى عامل هام وفعال وهو غياب النقد في مشهد الحركة التشكيلية المحلية وعلى مستوى دول الخليج ومجلس التعاون فأمام التحولات والتطورات التي حدثت في التشكيل لم يكن هناك كتابات أو دراسات نقدية تواكب أو توازي ما يحدث في الساحة أيضًا تخلى النقد أو النقاد الأكاديميين حتى في مجالهم التربوي عن المساهمة في تفعيل المشهد التشكيلي.