يُقدِّم الشتاء العربي (هو شتاء وليس ربيعًا) فرصة جيدة لحزب العدالة والتنمية التركي لا أظنه يفوّتها، قبل أن أبين ما هي، سأوضِّح الإطار الذي تطرح فيه. في الشرق الأوسط اليوم فلسفتان، فلسفة النظام التركي وفلسفة النظام الإيراني، كلتاهما على تماس عميق مع الشأن الإقليمي، مما يجعلهما محل عناية منا، فقد يكون للنظام الأرجنتيني فلسفته، التي تعني نظريًا المشتغلين بالفكر السياسي، أما من الوجهة العملية فلا تعنينا. وهما متنافستان نظريًا إلى حد التناقض، هذا لا يجعلهما متصادمتين عمليًا، بل أن في محتوى أفكار حزب العدالة والتنمية ما يدعو صراحة إلى تجنب صدام كهذا ما أمكن. في كل الأحوال لا فرصة لفلسفة الملالي للبقاء على المدى الطويل، هذا مآل كل فلسفة نزاعية تصادمية إن كان هناك من يتأمل التاريخ، وهو كذلك استنتاج من قراءة محايدة للواقع الإقليمي، غير ملونة بأماني انحيازات من يقرأ. هذا في حد ذاته يعطي لفلسفة حزب العدالة قيمة مضاعفة، من جهة أن منافستها لا تطرح بديلًا ذا مستقبل. ظني أن وصف العثمانيون الجدد لا يجانبه الصواب، رغم أنه من ابتداع خصومهم لداعي التجريح، ففيه اتهام بالنكوص والعودة إلى الوراء. إن كانت العثمانية تعني نظامًا إقليميًا لتركيا فيه دور مميز فالوصف غير بعيد عن الصحة، فالدور من بين تصورات وأهداف حزب العدالة، سعى ويسعى للعثور على شركاء إقليميين يشاطرونه تصوره، ولم يك صعبًا أن يجدهم، لأن عروضه لا تتجاوز المنفعة المتبادلة، وبلا شروط. إلا أن آفاق المشروع وتطوراته لا يمكن رصد توقعاتها، بل إن تطوراته الإيجابية غير محتملة، ذلك أنه يجرى تجربته فى منطقة لا أغرب منها على وجه البسيطة، تسودها فوضى غير خلاقة، وصمت غير حكيم، رغم علو الجعجعة والصخب، الصمت هنا لا يعني غياب الصوت، فالأصوات متوافرة لحد الهرج، ولا تقول شيئا مفهومًا، لأن الفهم ليس من بين غايات إصدارها. بيئة لن تساعدك على بناء تطورات تراكمية تصل بها إلى هدف منشود سلفًا، إن شئت تستطيع أن تبدأ، لكن أين ستقف؟، أنت وحظك. هذا من الوضوح بحيث يستحيل أن يغيب عن تقديرات أردوغان وزملائه، وتجربتهم مع سوريا أكدت ذلك.. لمثل هذا المشروع مرحلتان، الأولى بناء تعاون إقليمي، على أمل البلوغ به فى الثانية إلى عتبة النظام الإقليمي. إن كان المرء صادقًا مع نفسه، فإن الإقليم بما هو عليه من مواصفات لا يقدم فرصة واعدة حتى للمرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية المفترض تركها لغياهب المستقبل فمستحيلة عمليًا بدون تشابه الفلسفة السياسية لوحدات النظام، هذه العقبة (على سبيل المثال الدال) أحد أهم عقبات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. لو قدر للشتاء العربي حيث هبت عواصفه حمل تغيرات إيجابية، ستكون باتجاه النموذج التركي، وأوضح سماته حزب يستند بشكل ما إلى المشاعر الدينية، إلى جانب مؤسسة عسكرية ذات دور مميز يتسع أو يضيق، مع اعتراف صريح بقواعد اللعبة الديمقراطية، أو لنقل القواعد المتفق عليها منها. ميزة النموذج أنه يقدم قاعدة مقبولة لتواتر عمليات التحديث، خاصة إذا اقترن بفلسفة شبيهة بالمعتمدة فى تركيا.. كتب العديد من التقارير والمقالات التى تنتقد النموذج التركي وحزب العدالة والتنمية، بعض تلك الانتقادات صحيح، إلا أن المسألة ليست بعد النموذج عن المثالية، إنما إمكانيات مساهمته فى السير باتجاهها، وتجاوبه مع احتياجات واقعه.. القائمون على الشأن المصري حيال لحظة تاريخية بكل المقاييس، والقائمون على الأمر فى أي مكان وكل زمان هم رجال واقع، لا وقت لديهم لمسائل النظر والفلسفة، لذلك قد يفوتهم الانتباه إلى تاريخية الفرصة واللحظة، فلا تستبين ممكناتها، فلعلها تستبين. الفرصة أوضح على الجانب التركي، لأن المشروع مشروعه، وحاز الوقت الكافي لفحصه والنظر فيه، الزيارة التي قام بها أردوغان مؤخرًا للقاهرة ربما كانت للتأكد من احتمالات الفرصة.