تذكرتُ وأنا أقرأ خبرًا نشرته جريدة عكاظ يوم الأحد 28/9/1432ه تحت عنوان: (لماذا أصبحت الآثارُ أحاديثَ، والنقدُ دراساتٍ، والرواياتُ عروضًا؟)، ما يهذي به هذا الرجل الذي يطلق عليه صحفيون المفكر الإسلامي، رغم أنه يصرخ عبر كل لقاء يُجرى معه أنه غير متخصص، لا في العلوم الدينية فقط، بل وفي الثقافة الإسلامية كلها، ولا يعرفها، ولكنه مع ذلك يفتي في كل ما يجهل، ويدّعي العلم لكل ما لا يعلم، حتى أنه يعتبر قُبلة الشاب لزميلته الفتاة في الجامعة توفر لهما حماية من الانحراف، أقصد جمال البنا، الحامل دبلوم خدمة اجتماعية، التي لا يعرف عنها سوى الاسم، فهذا زمن ادّعاء العلم بلا بيّنة، مصداقًا لقول سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالمًا اتّخذ الناس رؤوسًا جهّالاً فسُئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)، وهي نبوة نبوية تصدّقها الأحداث التي تمر بعالمنا المسلم اليوم. وأعودُ لما قرأتُ في عكاظ الخبر الذي سبقته دعوة مَن كتب الخبرعنه يوجهها للهيئات العلمية بزعمه للتصدّي للأوضاع الرجراجة، وهو المغرم باستخدام ألفاظ لعلّه أول مَن يجهل معناها، فما رجراجة -في ما نعلم- إلاَّ قبيلة بالمغرب منها أعلام من العلماء في كل فن من فنون العلم الإسلامي، ممّا دعانا إلى أن نجعل عنوان هذا المقال ما قرأتم أعلاه، وهذا الخبر عنوانه الذي نشرته الجريدة فوقه، عبارة مركبة تنم عن جهل بمعنى الأثر، ومعنى الحديث، وما هو النقد؟ وما هي الدراسة؟ وبم تعرف الرواية؟ وما معنى كون الرواية عرضًا؟ فالإنسان إذا خلا وفاضه من العلم، رمى بالألفاظ يجاور بعضها بعضًا لا صلة بينها، وكأنها صخر يُراد به إقامة ردم على غير انتظام، وطبعًا الأخ صالح سعد اللحيدان، المكتوب عنه الخبر له عجائب وغرائب، يعجز الناس عن ملاحقتها، وهي لا تنتهي أبدًا، ينكر عبرها المعلوم ضرورة من سائر العلوم، ومن علم التاريخ والآثار، دون أن يسند إنكاره بحجة أو برهان، فلا جبل عنده يُسمّى حراء في مكة، ولا فوقه غار كان يتحنّث فيه سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شاعر القرن، ولم ينظم قصيدة واحدة، هكذا هو دائمًا، والأثر عند أكثر أهل الحديث مرادف للفظ الحديث، فكلاهما بمعنى واحد هو ما أضيف إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خُلُقِية وخَلْقية، ومنهم مَن رأى أنه مغاير للفظ الحديث، وأنه يعني ما أضيف إلى الصحابة، أو التابعين من أقوال، وأفعال، أمّا القول بأن بعض الأحاديث لا تعتبر إلاَّ آثارًا بهذا المعنى فهو جهل تام بعلم الحديث، أو أن كل ما ضعف سنده من الأحاديث اعتبر أثرًا فهو جهل مركب، وليس كل حديث ضعف سنده رد، وإنما يرد من الأحاديث ما كان ضعفه كثيرًا، بحيث يكون فيه متهم بالكذب، أو مَن هو فاحش الغلط، أو لأن فيه انقطاعًا، أو إرسالاً دون الصحابي، ولا متابع له، ولا شاهد، والحديث الضعيف المتصل السند يُستشهد به فإذا تعددت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن، وعُمل به، فحديث (أدبني ربي فأحسن تأديبي) حتى وإن حكم بضعفه فمعناه صحيح، ويشهد له حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس معنى إيراده في كتب الحديث أن أهل العلم به يجزمون بنسبة هذه الألفاظ إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثارة الخلاف حوله لا معنى لها، ولا فائدة تُرجى لها، وحديث (إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) تعددت طرقه، وأخرجه أكثر علماء الحديث في مصنفاتهم، ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه على ذلك الإمام الذهبي، وحكم بصحته الألباني من المعاصرين، ويشهد له ما رواه الإمام أحمد (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، وما رواه أحمد والترمذي (إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)، وما رواه الترمذي والحاكم (أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق). فالحديث ثابت ولم يدّع أحد أنه من الآثار المروية عن أحد من الصحابة أو التابعين إلاّ مستشارنا القضائي ومستشار الجمعية العالمية للصحة النفسية المزعومة، وحديث (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود)، وقد روي الحديث مرسلاً عن ابن جريج قال: قال عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ... الحديث)، وهو حديث صحيح وصححه من المعاصرين الألباني، وأمّا حديث (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها) فلا ينسبه عالم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنده مختلف عليه، فالبعض يصححه، وآخرون يضعفونه، ويزعم بعضهم وضعه، وعمدة مَن ضعّفوه إنما هو القول إن في رواته مَن هو متّهم بالتشيّع، وليس كل مَن اتّهم بهذا لا تقبل روايته، خاصة في العصر الأول الذي لم يكن فيه لهذه الطوائف مذاهب قائمة، وليس في الحديث ما يدل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد عُيّن للخلافة، والجدل حول هذا الحديث عقيم، وقد صدق مَن قال من المحدثين بعد أن ساق الأقوال في تضعيفه: (مَن حكم على الحديث مع ذلك بالكذب فقد أخطأ، وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول)، وإثارة الجدل حوله من منطلق طائفي لم يعد مقبولاً، في زمان يجب أن تسوده الحقائق، أمّا قضية إنكار الأخ صالح سعد اللحيدان أن يكون كعب بن زهير ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنشده قصيدة البردة، هو من سلسلة الإنكارات التي تعوّدها، وهو مَن لم تُعرف له دراسة أكاديمية أهلّت للتخصص في علوم الدين، ولا أنه تلقى العلم على يد موثوق به من العلماء في الفنون التي يتحدث عنها كعلم الحديث، فمتى يكف هذا -عفا الله عنه-؟ لعلّ ذلك قريبًا، فهو ما نرجو، والله ولي التوفيق.