بقيت قيم المجتمع السعودي على مدى العقود المتتابعة و منذ تأسيس هذا الكيان الشامخ قريبةً من قيم مجتمع النبوة الأول أو تكاد ، ينزل الناس فيها حين الخلاف أو التباين عند المفاهيم و القيم الإيمانية في كل مناحى و صور الحياة ، و إن خالطت الممارسات بعض الأخطاء فتلك طبيعة البشر و البشر خطاؤون ، لكن واقعنا الجديد الذي لم يزل يتبلور أمام أعيننا خلال العقدين أو الثلاث الأخيرة قد يكون فيه ما هو بخلاف الصورة الذهنية الجميلة التي كانت تحملها الذاكرة الجماعية عن مجتمع المملكة ، فللأسف أصبح من بيننا فئة قد تستحل الدماء الزكية تحت شعارات و مفاهيم دينية مغلوطة ، و أصبح منا من لا يخجل في أن يجاهر بمعصية الله تعالى جهاراً نهاراً في الأسواق و التجمعات العامة بل و على شاشات الفضائيات ، و من المهول أن يصل حال البعض منا ( و إن كانوا نزراً لا يكاد يذكر ) إلى اليأس من رحمة الله و من ثم الإنتحار و قد ثبت في الروع منذ الصغر أن المسلم لا ينتحر و أن المنتحر خالدٌ في نار جهنم مؤبداً فيها يظل يقتل نفسه فيها بالطريقة التي أنهى به حياته في الدنيا كما وردت في ذلك الأحاديث الصحيحة ، و أصبح منا من يقود سيارته بطريقة متهورة تصل لدرجة الجريمة المتعمدة في الإستهانة بقداسة النفس البشرية دون وازع من ضمير أو خوف من يوم الحساب ، و قبل أن يكون الإصلاح الإجتماعي و السياسي و الإقتصادي هو مطلب ثورات الربيع العربي فهو دعوة الأنبياء و المرسلين ، قال تعالى على لسان سيدنا هود عليه السلام في محكم التنزيل ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي و رزقني منه رزقاً حسناً ، و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما أستطعتُ و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) ، و بلغ من إهتمام القرآن الكريم بالإصلاح أن جاء ذكره ما يزيد عن 170 مرة بأساليب مختلفة و سياقات متعددة مع قرن ذلك بمجانبة الفساد. والإصلاح الشامل في الحياة يستلزم إصلاح الأنفس ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، و حتى لاتكون نظرتنا قاتمة أو أن نكون ممن يضعون على أعينهم نظارات شمسية سوداء نؤكد على أن نسبة كبيرة في المجتمع يغلب عليها الخير الأصيل في الفطرة السوية للنفس البشرية ، و يكثر في الناس الإلتزام الشرعي و الأخلاقي الذي هو من سمات النفوس المسلمة ، و الإيجابية المتزنة في التعاطي مع ضغوط الحياة ، و به من أهل التقى و النهى و الصلاح أناسي كثير ، و مع ذلك فإن بعض مؤشرات التغيير خطيرة و تدعو للقلق خوفاً من الفساد ، و الزمن إما أن يكون جزءًا من الحل و إما أن يكون جزءًا من المشكلة بناءً على التوجهات الصحيحة أو الخاطئة ، لذلك كان إصلاح الأنفس هو بداية الإصلاح الحقيقي. غني عن القول بأن وضع الحلول لأي مشكلة يستوجب تشخيص الداء أولاً ، و أمهات أدوائنا بينةً و جلية لأصحاب البصائر النيّرة و على رأسها الإنفصام النكد بين المعتقدات الدينية التي ندين الله بها و القيم الأخلاقية التي نتغنى بها و بين السلوكيات و الممارسات اليومية ، و منها عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب فكثيراً ما يقدم القريب و الصديق و من هو من «الشلة» على القوي الأمين. هذا بالطبع غيض من فيض من ما تعاني منه المجتمعات العربية ، و من أهمها و الذي يهمنا أن نركز عليه في طرحنا هذا التطرف و الغلو و إنحسار مساحات الوسطية الهينة اللينة البشوش التي كانت السمة الغالبة للتفاعل في المجتمع السعودي المسلم المحافظ المتجانس أو شبه المتجانس ، و يقابله حديثاً تطرف من نوع مضاد يصطدم و مسلمات المجتمعات المسلمة ألا و هو تطرف الأفكار «المستوردة « الدخيلة و غير الإسلامية من ليبرالية و علمانية و إنحلالية و مستغربة داعية في مجملها للتسيب و الإنفلات و الانحلال الأخلاقي و فصل الدين عن الحياة و الدنيا لا سيما السياسة التي يرى البعض من دعاة ذلك التطرف الجديد بأن العبادات و الأخلاقيات الإيمانية ليست سوى مسألة شخصية و أن الإلتزام الشرعي حتى الصلاة عماد الدين مجرد مسألة شخصية بين المرء و ربه لا شأن للأخرين بها ، بينما للصلاة إضافة لجانبها الإيماني و إلى جانب رمزيتها في التمايز بين أهل الإسلام و غيرهم ( الفرق الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) ، لها أيضاً جوانب سلوكية بينها لنا قوله تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و البغي ) ... الآية . فواجبنا الإصلاحي يحتم علينا محاربة التطرف كل التطرف المتشدد منه و المتسيب و إلا غذى التطرف بعضه بعضاً في دائرة عنف مغلقة لا نهاية لها قد تتسبب في التأثير على السلم الإجتماعي. ثمة العديد من الآليات التي يمكن من خلالها نشر روح الوسطية الدينية و السماحة الإسلامية بين الناس عموماً و بين الناشئة على وجه الخصوص ، من بينها العودة إلى مناهج التعليم و التركيز على الجانب التربوي و الأخلاقي في التعليم أكثر من جانب الحشو المعرفي للمعلومات فالتربية كانت مزية أجيالنا السابقة ، و لا بد أن تكون مخرجات العملية التعليمية الأهم هي الشخصية المتوازنة السوية المسالمة الإيجابية الفعالة المحبة لنشر الخير بين الناس كل الناس ، و لا بد من التدريب اللاصفي على ذلك من خلال العديد من المناشط التعليمية التربوية كمثل المخيمات الصيفية ، و برامج المبدعين و الموهوبين الصيفية ، و التجمعات الرياضية و الرحلات الطلابية. كما يجب أن نركز على الدور التربوي للمسجد و العبادات في المزيد من التهذيب لأخلاقيات الكبار و الراشدين من الناس و أن يطرح من خلاله و ضمن برامج توعوية مدروسة الجوانب الأخلاقية للعبادات إنطلاقاً من قوله صلى الله عليه و سلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) و ما فهمه علماء المسلمين منها فقالوا الدين المعاملة. فالصلاة كما أشرنا لها وظيفة كبرى في تكوين الوازع الذاتي ، وتربية الضمير الديني ، كما أنها مدد أخلاقي يستعين بها المسلمون في مواجهة متاعب الحياة: (يا آيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) ، و عبادة الزكاة ليست مجرد نسبة مالية تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء لكنها بالمقام الأول وسيلة تطهير وتزكية أخلاقية (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) كما أنها وسيلة تحصيل وتنمية في عالم الأموال ، و الصيام ثمرته الحقيقية هي التقوى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) و التقوى جماع الأخلاق الإسلامية ، و في الحج تدريب على البساطة و المساواة بين الجميع و الترفع عن زخارف الحياة وترفها و صراعاتها المادية. لا تعدو الأفكار المطروحة أن تكون مجرد غيض من فيض مما في جعبة المصلحين من أبناء الوطن لكن المهم أن ندرك أن واقعنا في أمس الحاجة للإصلاح و أن تتضافر جهود المصلحين مع بعضهم البعض كل في مجاله ، و أن تتناسق كل تلك الجهود مع توجهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الإصلاحية.
للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (42) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain