دولة وشعب.. أمّا الدولة فهي الأكبر على الصعيد الإسلامي، والأكثر تعرّضًا لجميع أشكال وأنواع الاستعمار على الصعيد السياسي. وأمّا الشعب فقد تعرّض لأفظع ما يمكن أن يتعرّض له شعب من أجل مسخه أو مسحه من فوق الأرض. لا الدولة انتهت، ولا الشعب مات..! وبعد مئات السنين عادت كازاخستان بشعبها العريق؛ لتحتل مكانة بارزة في الاقتصاد العالمي، والمسرح السياسي الدولي. ولكازاخستان تاريخ قديم، يعود لما قبل الميلاد، وتاريخ آخر يبدأ بعد دخول الإسلام.. ففي القرن الثامن عشر كانت جزءًا من الخلافة الإسلامية، لكنها تعرّضت لغزو التتار والمغول قبل أن تحتلها روسيا القيصرية، وتنقض عليها ثورة أكتوبر البلشفية.. قتلوا كل شيء فيها.. دمّروا كل رؤوسها وعقولها.. قتلوا كتّابها، وشعراءها، ومفكريها؛ بحيث تصبح أمة بلا عقل! انزاحت الغمّة، واستيقظت كازاخستان تتحسس جسدها، وتبحث عن عقلها وهي التي لم تزل تتذكر أنها أهدت للعرب الظاهر بيبرس، وللمسلمين الفارابي، وغيرهما من قادة وعلماء أفذاذ. والحق أن ارتباط كازاخستان بالعروبة والإسلام ارتباط عميق. فحتى الثلاثينيات من القرن الماضي كان الناس هناك يكتبون بالعربية. وكان ما كان، وجاءت الثورة البلشفية التي عصفت بكل شيء في أكبر دولة إسلامية من حيث المساحة.. قبل أن يحوّل الاتحاد السوفييتي بجبروته أرض كازاخستان إلى ترسانة للسلاح النووي. فهنا المحطات، وهناك المفاعلات. وشيئًا فشيئًا تحوّلت أرض كازاخستان إلى حقول لتجارب أسلحة الدمار الشامل. يقول أول رئيس للبرلمان الكازاخي السيناتور أونير بك ل(المدينة): نحن أقصى دولة إسلامية شمالاً، حيث لا يوجد بعدنا سوى سيبيريا في الشرق.. هناك من يعتنقون البوذية، وعددهم مليار من البشر، وفي الغرب يعتنقون المسيحية.. ونحن على مدى آلاف السنين نصارع هاتين القوتين حفاظًا على إسلامنا. ويمضي يقول: مع الاكتشافات الحديثة في مجال السلاح، بدأنا ندافع عن أنفسنا، لكننا تعرّضنا للهزيمة عام 1848م، عندما توفي آخر ملوكنا، فانهزمنا أمام روسيا القيصرية. وفي عام 1991م نلنا استقلالنا، ونحاول الوقوف على أقدامنا. ويضيف: في عام 1997م أصدر الرئيس نور سلطان نزار باييف قرارًا بنقل العاصمة من ألما أتا إلى أستانة.. كان ينقصنا أشياء كثيرة. وفي ذلك الوقت مدّت السعودية يد المساعدة لنا، وزرتُ المملكة لأول مرة -جمعت مجموعة من 17 شخصًا- وأخذتُ ولدي معي، وكنتُ قد كتبتُ رسالة للملك فهد بن عبدالعزيز –يرحمه الله- أطلبُ فيها مقابلته شخصيًّا.. وعندما ذهبت للسفارة قالوا لي: لن يقابلك الملك، حيث لا تسمح حالته الصحية، وسيقابلك رئيس مجلس الشورى. وعندما وصلت الرياض قلتُ لهم: إن معي رسالة من الملك تؤكد أنه يطلب رؤيتي، وبالفعل التقيتُ الملك فهد، وحكيتُ له عن بلادي. وقلت له: إن مساحة بلادنا هي الأكبر (مليونان و800 ألف كيلومتر مربع) ونتوقع أن يكون لنا شأن على صعيد العالم الإسلامي كله. فقال لي الملك: سندعمكم بكل ما نستطيع.. وعندما هممتُ بالخروج سألني عن مجلس الشيوخ الذي أترأسه فقلت له: ليس لدينا مقر حتى الآن، فأمر يرحمه الله بتشييد أفخر مبنى للمجلس على نفقة المملكة. سألته: كيف حافظت على المستوى الشخصي على إيمانك بالإسلام؟ قال: كنتُ أعملُ محافظًا، وكنتُ أول سكرتير للحزب الشيوعي، بل إنني تخرّجت في الأكاديمية العليا للحزب الشيوعي، لكنني أبدًا لم أتخلَّ عن إسلامي.. لم أُوذِ فردًا في حياتي، وكنتُ أصوم سرًّا مثل أبي.. لم أكن ملحدًا في يوم من الأيام.. وعندما انزاحت الغُمّة عدنا أقوى إيمانًا ممّا كنا عليه.. إنني أفتخر بأجدادي وآبائي، لقد أنشأوا إمبراطوريات كثيرة.. فالفرس مثلاً سمّونا بقبائل (ساق)، والرومان أطلقوا علينا قبائل (سكيف)، واليونانيون قالوا عنا قبائل (الهن). لقد دخل الإسلام إلى بلادنا لأول مرة عام 751، وجاء دخولنا للإسلام بسهولة ويسر، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى وجود دين موحّد في بلادنا قبل الإسلام، كان يدعو لعبادة إله واحد؛ ولذلك تعرّفنا على الإسلام بسهولة، ودخلنا في دين الله أفواجًا. بناء المكان والإنسان الشعور بالانبهار في العاصمة الكازاخية الجديدة أستانة لا يقتصر على روعة البناء والعمارة الحديثة، وإنما يمتد ليشمل الشوارع، والميادين، والمساحات الخضراء، والحدائق الغنّاء، والمتاحف الزاخرة بالتاريخ الناطق.. وفي مجال البناء والعمارة يكفي أن نعلم أن أطوال البنايات هناك تفوق أي مبنى في أي مدينة عربية، بما في ذلك الرياض، والقاهرة وغيرهما.. لقد نجح الكازاخيون في تقديم تجربة عمرانية هي الأروع، ربما على مستوى العالم.. ففي أستانة كل شيء يمضى باتّساق.. وزارة الدفاع خصصوا لها مكانًا في الشمال صوب روسيا، ووزارة الخارجية صوب الصين.. وفي الغرب حيث النفط والغاز أنشأوا وزارة النفط والغاز، وفي الشرق وضعوا مبنى رئاسة الجمهورية؛ لأنه يمثل شمس بلادهم الجديدة.. وفي أنحاء العاصمة يجرى نهر (إيسيل)، لا يحجبه عن الأنظار مبنى، أو شاليه، ولا يزعجه بناءٌ عالٍ، أو إعلانٌ فجٌّ. وفي العاصمة أستانة لا يمكن للمارة أن يجدوا ورقة واحدة ملقاة على الأرض، بما في ذلك ورق الأشجار الكثيفة التي ترطب المكان، وتزيد منظر العاصمة روعةً وبهجةً. يقول الرئيس سلطان نزار باييف: تحلم كل أسرة ببناء منزل خاص بها.. يبدأ كل شيء في هذا الكون بفكرة بسيطة.. يتصوّر الأب، ويتخيّل في أول الأمر شكل البيت الذي يحلم به.. تتوارد أفكار مختلفة في رأسه بعد أن يحدد مكان المنزل.. يضع له مخططًَا ثم تبدأ عمليه البناء تدريجيًّا من الأساسات، فالسقف، فالجدران. تمضي بعض الأسر سنوات في البناء، تحرص في أثناء ذلك أن يكون البيت المنشود ذا جودة عالية، وأن يكون كاملاً.. يبني الأب البيت لأولاده، وأحفاده، وأولاد أحفاده، لا يوجد أغلى من البيت الذي نبنيه بسواعدنا، ليس البيت في نهاية الأمر مجرد جدران ونوافذ وغرف، إنه الدم، والمأوى، ونصيب الإنسان في هذه الحياة. قرأتُ كلمات الرئيس الكازاخي بعد رؤيتي للعاصمة الجديدة، والحق إنني لمستُ تطابقًا هائلاً بين ما كتبه، وما تحقق على أرض الواقع.. لكن أشد ما أذهلني هو بناء الإنسان هناك. فالعاصمة كلها تقريبًا من الشباب، السكان لا يتجاوز متوسط أعمارهم 25-30 عامًا، وكل شيء ينطق بالشباب. الشوارع، والميادين، والمباني، والأفكار، والنهر الجميل، والحدائق الأجمل. والعجيب أن سكان أستانة خليط من أنحاء كازاخستان، بدأوا ب100 ألف، ووصلوا الآن إلى 780 ألف نسمة.. ويضيف سلطان نزار باييف: بأن على زعماء كازاخستان في المستقبل طلاب الجامعات، والمدارس في الوقت الحاضر أن يتعرّفوا على كل لبنة وُضعت في الأساسات التي بُنيت عليها كازاخستان.. أتمنى أن يشعر هؤلاء بعظمة المسؤولية وثقلها. لا أريد أن أكرر أنكم أيُّها الشباب تشكلون جيلاً خاصًّا.. أنكم وُلدتم وترعرعتم في كازاخستان المستقلة.. تُعتبر سنوات شبابكم فترة نهضة وازدهار في بلادنا.. لقد استوعبتم روح الإنجازات، والسعي للنجاح.. إنكم مَن سيحدد مصير دولتنا. سلام تعاون تنمية سألت وزير الخارجية الكازاخستاني يرجان كازيخانوف عن تطلعات بلاده على الصعيد الإسلامي تحديدًا فقال: سلام.. تعاون.. تنمية.. هذه هي سياسة بلادنا في الفترة التي تتولى فيها رئاسة منظمة التعاون الإسلامي.. وفيما يتعلّق بالسلام، فنحن مع تسوية شاملة للصراع في الشوق الأوسط.. إنه السلام القائم على العدل. كما أننا نتابع باهتمام ما حدث في الشرق الأوسط، وتحديدًا في تونس، ثم في مصر، ثم في ليبيا.. ونحن نحاول تقييم هذه الأحداث، وفي مجال التعاون نسعى لحفظ الأمن في وسط آسيا، ومكافحة أشكال الإرهاب، وترويج المخدرات من أفغانستان. كما سنتصدى للإسلاموفوبيا داعين إلى الحوار، والتسامح، وكل ما ينفع البشرية. أمّا فيما يتعلّق بالتنمية، فهناك برنامج عشري تم إقراره عام 2005م، وقد اتفقنا مع وزراء خارجية الدول التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي على ضرورة تنفيذ ما تبقى من بنود في هذا البرنامج.. إننا شغوفون بالتعاون الإسلامي إلى أبعد مدى ممكن كما نساعد، وندعم دول الحوار المحتاجة في وسط آسيا، وفي أفغانستان. سألته: وماذا عن آفاق التعاون مع المملكة؟ قال: بلا حدود في جميع المجالات، بدءًا من الزراعة، حيث نسعى لتصدير القمح، والشعير، والحبوب، إلى التعاون العالمي في مجال الطاقة، مرورًا بالعلاقات التجارية والثقافية الأخرى. لقد جاء إلى بلادنا وزراء مهمّون في المملكة، بينهم وزير الاقتصاد، ووزير التجارة والصناعة، كما جاء وفد من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وقد فتحنا أبواب التعاون مع المملكة بلا حدود؛ لقناعتنا المشتركة بأهمية التضامن الإسلامي. ويمضي يقول: إن ريادتنا لعملية نزع السلاح النووي، وتخلّينا من جانب واحد في الفترة من 1992-1995 عن الترسانة النووية الضخمة، وكذلك قرارنا التاريخي بإغلاق ميدان التجارب النووية السوفيتية السابق في سيمبا لاتينسك لقيت جميعها الترحيب من جانب الأمة الإسلامية.. والحقيقة أن هذه القرارات الصعبة مكّنت بلادنا من كسب ثقة المجتمع الدولي كله. • سألته: وماذا عن الدعم الإسلامي في هذا المجال؟. - فأجاب: إن الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي تقدم الدعم الدائم، والكامل لإعادة تأهيل الموقع السابق للتجارب النووية، ومعالجة مشكلات منطقة بحر آرال. وقريبًا ستقوم كازاخستان باتخاذ المزيد من الخطوات لتحسين الوضع على أرض الواقع، من أجل إنهاء الكوارث البيئية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي. • وما الذي تتطلعون إليه أثناء رئاستكم لمنظمة التعاون الإسلامي؟ - نعتزم في الحقيقة أن نلعب دورًا مهمًّا، بحيث نكون جسرًا حقيقيًّا للتواصل بين المنظمات والمحافل الدولية الرئيسة، والمتعددة الجنسيات، ونستهدف من ذلك إيجاد الظروف المواتية لتحقيق السلام والتعاون العالميين. • وماذا عن مؤتمر التفاعل وبناء الثقة الذي أنشأه الرئيس الكازاخستاني؟ - لقد انضمت أفغانستان، ومصر، وإيران، وقيرغيزستان، وباكستان، وفلسطين، وتركيا، وطاجكستان، وأوزبكستان لهذا المؤتمر، ونتمنى أن تنضم الدول الأخرى من أجل توثيق التعاون بشأن المسائل ذات الاهتمام المشترك.. كما أن منظمة التعاون الإسلامي يمكن أن تستفيد من التعاون مع منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم ستة بلدان، وكذلك مع الهياكل الدولية ذات الصلة للبلدان الناطقة بالتركية. رئيس عاشق يتغزل في شوارع العاصمة شاكرًا النهر أعترفُ لكم أنني لستُ متمكّنًا من الشعر، لكنّي عندما أتذكّر انتقال العاصمة من ألما أتا إلى أستانة يخطر مباشرة على بالي شطر من شعر أولجاس سوليمانوف (لنرفع السهل، من دون أن نخفض الجبل)، أنا أفسّر هذا الشطر بشكل مختلف كليًّا. لقد وضعنا نُصب أعيننا مهمّة صعبة شبيهة بمحتوى الكلمات الشعرية، فقلنا يجب علينا بناء عاصمة جديدة في السهول، مع الإبقاء على روعة المدينة المطلّة على تلال ألاتا السفحية. بهذه الكلمات تحدّث رئيس كازاخستان عن سر تمسّكه ببناء عاصمة جديدة لبلاده هي الأستانة. يقول سلطان نزار باييف: وُلدت عندي منذ زمن بعيد فكرة نقل العاصمة، وبناء عاصمة جديدة.. كان ذلك في عام 1992م، لكنني لم أنبس وقتها ببنت شقة حول ذلك؛ لأن الاقتصاد لم يكن يسمح لنا بتنفيذ الفكرة.. أمّا الآن يضيف سلطان نزار باييف: فإني أجد نفسي وأنا أمر بشوارع أستانة قد أصبحت ملهمًا وعاشقًا لها.. يغمرني هنا شعور عجيب لا يطفي عليه شيء آخر بأني في بيتي وبين أهلي.. يغمرني هنا شعور بالسعادة والسكينة. أنت تشعر هنا وكأن مصابيح الشوارع تغمز لك بعيونها، والأشجار تنظر إليك من خلال أغصانها. ويضيف الرئيس الكازاخستاني: كلّفتُ المعنيين بعمل دراسة لتحديد أحسن الأماكن ملاءمة للعاصمة الجديدة للدولة.. رأينا أنه يجب على أيّ مدينة لكي تكون عاصمة أن تلبي 32 شرطًا، ومن أهم هذه الشروط مؤثراتها الاجتماعية والاقتصادية، ومناخها، ومناظرها الطبيعية، ووضعها الزلازلي، وبيئتها المحيطة، واحتواؤها على البنية التحتية الهندسية، والبنية التحتية للنقل، على أن تكون قابلة للتطور، والاتصالات، وقطاع التشييد والبناء، وموارد العمل. ليس بالأمر السهل أن تحوّل مقاطعة ما زالت (سوفيتية) إلى عاصمة عصرية.. لا تستطيع بساعة واحدة أن تخلّص مدينة من إرثها السوفييتي القديم.. بيوت مهترئة متناثرة وفقًا لتخطيط فاشل، بنية تحتية متخلّفة، صناعة فكرية قديمة، يجب أن يتم بناء المدينة بشكل منتظم ومنطقي، وأن تؤخذ التجارب الدولية بعين الاعتبار على ألاّ يتم تجاهل الصبغة الوطنية. ويمضي الرئيس الكازاخستاني قائلاً: عندما أتذكر الخطوات الأولى في بناء العاصمة، لا يسعني إلاّ أن أذكر بكثير من الحميمية والدفء والحب مَن رافقنا، ووقف إلى جانبنا، وقدم الكثير للأستانة.. إنه نهر إيسيل.. كان هذا النهر في الحقبة السوفيتية عبارة عن جدول بسيط، ولم يكن يحظى باهتمام السلطات إلاّ بالقدر الذي يبقى الماء جاريًا فيه.. فقط ليس إلاّ.. كانت البيوت الريفية متراصّة على جانبيه الأيمن والأيسر، لم تكن تحظى ضفتا النهر عند اقترابه من وسط المدينة إلاّ بالحد الأدنى من الاهتمام، وكانت عيدان القصب تنمو في تلك المنطقة الحسّاسة من المدينة، كل شيء تغيّر مع انتقال العاصمة إلى هنا.. أعدنا شق المجرى، وبناء الضفتين، وصار الشاطئ مكانًا محببًا لدى أبناء المدينة.. عندما ننظر الآن إلى شاطئ النهر الذي كان ضحلاً في يوم من الأيام، لا يمكننا إلاّ أن نتذكر حجم الأعمال الهائلة التي نفذت على ضفتيه، وكيف بنينا تحت الماء منظومة متكاملة لحماية المدينة من الكوارث الطبيعية.