في هذه الرواية التي حينما ننتهي من قراءتها نشعر أن هنالك شيئًا في العمق يهتز، في هذه الرواية التي لخصت بطلتها حياتها في شفافية الدمع، وهو يملأ العين وتبدو كل الحياة مهتزة بخفقانه نحس بصمت شديد يصرخ صراخًا هائلًا مدويًا في اللحظة الفاصلة بين الوجود واللا وجود.. بين الإنسان واللا إنسان. وبعبارة أخرى “إن هذه الرواية تمنحنا دهشة حزينة كالحياة تمامًا”. لا أدري حينما خرجت من وهج (رواية مع سبق الإصرار والترصد لسهام مرضي الطبعة الأولى عن نادي حائل ودار الانتشار العربي 2010م) لماذا استحضر الذهن رجاء عالم ورجاء الصانع في لحظة شق الشرنقة الأخيرة من الرواية. رجاء عالم روائية سعودية محترفة حصلت على البوكر هذا العام وهي تكتب منذ سنوات عديدة، وتمثل تجربتها مع الأدوات الروائية من فضاء نصي وفضاء مكاني إضافة إلى لغتها ذات الأجنحة الخرافية، تجربة فريدة ليس لأن الروائية امرأة أو لأن روايتها تتجلى فيها أقانيم الأدب النسوي، بل إنها مضت في تجربتها إلى درجة أصبحت معها ذات منجز لا يمكن المرور عليه إلا بوقفة فيها كثير من التأمل والتقدير هذه رجاء عالم المرأة التي تنتمي إلى الفضاء المكي المعتق في عطر القداسة الخالد. أما رجاء الصانع التي أصدرت روايتها بنات الرياض في 2005، وتوالت طبعات الرواية بعد ذلك فكانت التجربة الروائية لها هي أول تجربة، وعلى الرغم من الضجة الكبيرة التي أحدثتها الرواية، واختلاف النقاد حول القيمة الفنية لمنجزها رغم صغر سنها، إضافة إلى لغتها العادية، إلا أنها تمثل قيمة كبيرة في النظر إليها من خلال وضع المرأة في المجتمع أي أنها وثيقة مهمة للأدب النسوي بما أحدثته من كشف لبعض المسكوت عنه في مجتمع أيديولوجي شديد المحافظة كالمجتمع النجدي بعد دخوله في مرحلة الترف. وهنا تأتي سهام المرضي لتمثل ضلع المثلث للروائيتين السابقتين بروايتها الأولى مع سبق الإصرار والترصد، ومع أن الرواية الأولى كشأن أول رواية لا بد أن تصاحبها بعض مزالق البدايات، إلا أنها أثبتت تميزًا على مستوى اللغة الشاعرية، وتميزًا على مستوى المفاهيم والحمولات العميقة التي ناقشتها خاصة من ناحية النسوية وقضايا النسوية في المجتمع، إن هذه الرواية لتمثل الصرخة الحقيقية لكل فتاة في هذا المجتمع انها مأساة الإنسانية في هذا المجتمع الذي استبدل فضاءه الحقيقي بفضاء أيديولوجي قضبانه أكبر قضبان عرفها التاريخ البشري حتى الآن ومن المؤلم جدًا أن هذه الرواية تمثل ككثير من الروايات الصادرة هذه الأيام رسالة إنقاذ للعودة إلى ما يسمى (الإنسانية) المفقودة فنحن تهاوينا إلى ما قبل الإنسانية التي يمثل رسولنا صلى الله عليه وسلم قمتها (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). إن رجاء ورجاء وسهام هنا مرتبات كالآتي: أولًا المرأة في الحجاز، ثانيًا: المرأة في الطبقة المخملية النجدية، ثالثًا: المرأة في الجنوب والمرأة وهي تصارع الفضاء الأيديولوجي المقضبن في كل مكان وكل زمان. إذا كانت رجاء عالم هربت بروايتها وبنفسها خارج فضاء حصار المرأة، وإذا كانت رجاء الصانع اتخذت الإيميل متنفسًا لثقب فضاء ذلك الحصار، ثم اتخذت من طبقتها المخملية فسحة للانفلات هنيهة من الحصار، فإن ثالثتهم ماتت وهي تناضل ولم تستسلم للحصار تاركة أوراقها بجوار جثتها المتحللة في جبال مكة. سحر بطلة رواية سهام هي كل فتاة في هذا البلد مهما كانت طبقته ومهما كان فضاؤه، سحر هي فضاء الزمن الشفيف هي فضاء بين الضوء والظلمة هي اللحظة الممتلئة بالتوقعات، هي اللحظة الغامضة الجميلة، هي انتظار ولادة ما، هي فترة قرب انجلاء الفجر البهيج.. وفي مقابل تضحية سحر بحياتها كأي فتاة في هذا المجتمع غير السوي سواء عاشت أو ماتت، نجد بُعد رجاء عالم عن هذا الأهم الكابوسي الأكبر كما نجد هروب بطلات رجاء الصانع إلى تفاهتهن السطحية، وتعايشهن بل رضاهن بالإمائية، والسؤال أين الرجل من ذلك؟ إن أفضل موقف يتخذه الرجل هو الرجل الوطني المثقف كما تجسد في شخصية (فيصل) في رواية مع سبق الإصرار والترصد فما هو ذلك الموقف “وفي الرياض كان فيصل عائدًا من العمل وعلى وجهه تبدو علامات الإجهاد لأنه بعد الدوام اتجه إلى (إحدى) المطابع... مرهقًا جدًا استقبلته زوجته وسألته إن كان سيتناول طعام الغداء الآن أم بعد أن ينام... تركته وأغلقت الغرفة نظر أمامه مباشرة وحيث اللوحة التي أهدتها له سحر.. تأملها كثيرًا.. أغمض عينيه وبكى. انتهت...” ص 265-266. نعم هو موقف البكاء وإغماض العين، هو تزوج، وامرأته تنتظره للغداء، وجل ما فعله أن طبع ديوان سحر لتستمر الكتابة... ويستمر العناء. إن جزءًا من مشكلتنا الحقيقة أن المثقف يصيح إلى أن يبح صوته ولكن صراخه يتلاشى في مجتمع مفرغ من الهواء النقي، ومشكلتنا أيضًا في الجبن المتوارث عن القدرة على اتخاذ قرارات جريئة أو بالأحرى مشكلتنا في أننا لا نعيش في مجتمع مفرغ من الهواء النقي فحسب، بل هو مفرغ من الأبطال والعظماء.. مفرغ من أهل العقل والحكماء.. ممتلئ بالمقلدين والصغار والأصغر من الهباء.. مجتمع يظن الرجل أنه حاصل على امتيازات السيد، وهو يرسف في لاشئية العبودية كما أن المرأة ترسف في لاشئية الإمائية، مجتمع صنع بطريقة أن يكون أي شيء إلا أن يكون إنسانيًا بحق، إننا نؤمن أن أي مجتمع هو مجتمع ذو جدلية تمتد بين ثنائيات التفكير والعاطفة المحتملة، ودرجاتها المختلفة، ولكنه في الآخر ذو قاعدة بشرية إنسانية قاعها ممتلئ بالكرامة والخير والجمال والحقيقة أو شبه الحقيقة. أما أن يكون مجتمعا لا أساس له إلا فرن أيديولوجي يمثل وعيًا زائفًا بقضبان من فولاذ فبؤسًا لذلك المجتمع والويل له من مستقبله. إن قضية الإنسان و لا أقول قضية المرأة هي قضية القضايا في ذلك المجتمع فمتى يعود ذلك المجتمع إلى إنسانيته؟؟!! هي قضية في مجتمعنا ويا للتعاسة هي مسلمة مفروغ منها عند أغلب مجتمعات البشر على هذا الكوكب الأزرق..!! وسأحاول في هذه المقالة أن أتتبع شيئًا من خطوط الفضاء المكاني في رواية مع سبق الإصرار والترصد في بحثها عن الإنسان من خلال ذلك الفضاء. صحيح أن هنالك تقنيات روائية كثيرة لم تستغلها الكاتبة فلم تستثمر عتبات النص، و لا فضاء النص ذاته، ولم تدخل مجالات التجريبية الروائية المفتوحة بلا حدود، ولكن ذلك لا يقلل من قيمة الرواية التي تبحث عن الإنسانية المفقودة وسط دعاوى (الخصوصية، والفرقة الناجية، والإعلام النظيف جدًا، وحقوق الإنسان الكاملة). وعند تتبع خيوط المكان بين الجنوب والرياضوجدةومكة، وخيوط تفاصيل المكان بين البيت والمستشفى والكلية والجبل يتضح أن هذه الأماكن مشتركة في الصراع وهي كلها مع سحر ضد الرجل المؤدلج وهو يظن أنه يحسن صنعًا “قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا” سورة الكهف. ولمقاربة الفضاء في هذه الرواية سنتخذ من امتدادات الفضاء في الفصل أنموذجًا لبقية فضاءات الرواية، فالفضاء المكاني يمتد في هذا الفصل وفق الآتي: (.. منزلنا الكئيب.. غرفة العريس.. طريقنا إلى مكة.. جامع أنيق.. في الطريق.. أخطر سجون العالم.. عند الإشارة.. القبر.. الميقات.. محطة الهرب.. مكة.. الفندق.. إحدى البقالات.. الحرم.. إحدى دورات المياه.. الحوض حيث الطواف.. مطعم كودو.. الشارع المتقاطع مع الشارع الرئيس.. الفندق.. الحرم.. موقف السيارات في العزيزية.. الشارع العام.. الأزقة.. بين البيوت.. اتجاه المدينة.. طيبة.. محكمة.. القرية.. الطائف.. الجبال.. المساكن.. الجبال.. الصخور.. الجبال.. الجبل.. الأرض.. بيوت مسكونة.. المنازل) فضاء يتيح للقارئ تحديد هوية واضحة للرواية، كما يشعرنا بإيهام قوي جدًا للواقع، ولكن خيوط هذا الفضاء على وضوحها تحدد (الخصم/ الحكم) مما يؤدي في النهاية إلى التيه؛ فبين المنزل الكئيب وعبارة (ما كان ينبغي أن ابتعد عن المنازل إلى هذا الحد) لا بد أن تكون العبارة التالية (لقد تهت لكن قلبي سيقودني أشعر بذلك) ولكنه تيه أقوى من أي فضاء تيه أقوى من أي إنسان فلأجل ذلك كانت النتيجة هي (جثة متحللة)، على الرغم من رفضها الاستسلام إن هذا الفضاء فضاء يحيل إلى الديني الذي باسمه كانت أزمة الرواية، ولكنه الفضاء الذي تتوق إليه بطلة الرواية بفهمها للديني، بيتمها ويتم المكان ولأجل ذلك “سألت نفسي عن اتجاه المدينة.. طيبة حيث سأعود هناك إلى الزمن النقي سأستبدل به كل آباء الأرض سأشكو إليه حالي وحالها وحالهن جميعًا” إن الجبال وتكرارها وما توحي به من ثبات لم تكرر هنا إلا لأنها الملجأ من جبال الوهم المنغرسة في النفوس التي ارتهنت في قبر ضيق حتى وهي على أديم هذه الأرض، وأن مقابلة المحكمة بالقرية في عبارتين في سياق العموم لتدل على أنه لا فرق بين أحكام القرية وأحكام المحكمة القرية محكمة والمحكمة قرية. إن هذه الرواية الأولى هي جزء من طفرة روائية في المشهد الإبداعي لدينا، وإن كثيرًا ممن كتبوا الروايات إن ظنوا أنهم أصبحوا في عداد الروائيين بعد كتابة روايتين أو ثلاث لواهمون، فلا بد من تراكمية المنجز، وتراكمية التجربة، والإصرار على الاستمرار في الكتابة بعد ذاك يمكن أن نعرف من سينزلق في أثناء الصعود، ومن سيصل إلى القمة ليفتح صدره للرياح ويستنشق هواء ممتلئًا بالحزن والفرح بالدموع وبالمطر وفي إحدى يديه شمس وفي الأخرى أقواس ملونة تغدو فراشات كلما هزت الرياح أغصان اللوز عند حافة الجبل. * ناقد وأكاديمي