أسلوب الحكيم مصطلح بلاغي من مصطلحات علم البديع، وهذا الأسلوب يبدو أن آثاره امتدت خارج البلاغة العربية لتمثل تلوثًا في ذهنية العقل العربي أسهم في زيادة جرعات التخلف البلاغي والعلمي والحضاري. عند تحليل هذا المصطلح نجده مصطلحًا مركبًا من مفردتي (أسلوب) بمعنى طريقة (والحكيم) وهي صفة أقيمت مقام الموصوف أي الكاتب الحكيم أو المتكلم الحكيم، والحكمة صفة ذات قيمة أخلاقية رفيعة تجعل من يتصف بها في مكانة عالية. أي أن المصطلح يحمل حمولات أخلاقية منذ ولادته الأولى وحتى الآن، وهذا الأمر في المصطلحات هو أمر نادر لأنها في الغالب تقوم على لغة علمية ذات صبغة تجريدية. وحينما تحاول أن تتبع أمثلة هذا المصطلح في علم البديع تجده يدور حول تغيير الإجابة عن سؤال واضح وصريح والانتقال إلى الإجابة عن شيء آخر قد تكون له علاقة بألفاظ السؤال ذاتها دون الالتفات إلى معنى وراءها أو بمقصد المتكلم أو بمقصد المخاطب أو بالسياق المقامي أو بكل ذلك أو حتى بدون ذلك كله، أو حتى للهروب من الإجابة عن السؤال، ومعظم الأمثلة تذكر هذا النوع البلاغي في قضية السؤال والجواب، وهذه القضية قضية ذات أبعاد فكرية وحضارية جد خطيرة. أما لماذا صبغ هذا المصطلح بصبغة أخلاقية منذ القدم فلأن بعض أمثلته وردت في القرآن الكريم كقوله تعالى: ((يسألونك عن الأهلة. قل هي مواقيت للناس والحج)) فقد تم العدول عن الإجابة عن سؤال لماذا التغير في شكل الأهلة إلى الإجابة عن سؤال آخر هو ما فائدة الأهلة. لا نريد أن نناقش تفصيلات هذه الإجابة بالتحديد، وكيف أن العرب كان يعرفون أن الأهلة مواقيت، لكن المغزى من ذلك في رأيي أن هذا القرآن كتاب دين وهدى وليس كتاب علم في الفلك، لأن العلوم لها طريق أخرى. ولكن هذه الصبغة الأخلاقية للمصطلح قد تتهاوى إذا تم استعماله في مواقف غير أخلاقية للتهرب من السؤال أو لخداع المخاطب أو لغير ذلك، بل إن الشاهد الشعري الذي تردده بعض كتب البلاغة لامرئ القيس وهو قوله: تقول وقد مال الغبيط بنا معًا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل فقلت لها سيري وارخي زمامه ولا تبعدني من جناك المعلل قد يعد أسلوب حكيم أو أسلوب حبيب أو حتى أسلوب لئيم. أما إذا قسته بمقياس شرعي إسلامي فهو أسلوب بعيد كل البعد عن الحكمة... ومع أن البيت الشعري يدلنا على أن هذا الأسلوب لا يخص نمط (سؤال ← وإجابة مختلفة عن مطلوب السؤال) بل يشمل نمط (جملة خبرية مقترنة بطلب ← وطلب آخر مقابل مع عدم تنفيذ الطلب السابق) مما يزيد في أنماط هذا الأسلوب مع ذلك فإن من الصواب أن نعيد النظر في الإطار المنظومي الفكري للمصطلح ضمن مصطلحات علم البديع الأخرى، ثم ننظر في إطاره الحديث في علم الحجاج، غير غافلين عن تداولية هذا المصطلح ووجوه استعماله في الثقافة العربية. إن البلاغة العربية في إطارها القار الذي ثبته السكاكي جعلت أسلوب الحكيم وعدة أساليب أخرى مشابهة في منظومة علم البديع الذي يهدف إلى معرفة وجوه تحسين الكلام وتزيينه، وبمراجعة لتلك الأساليب نجد أنها في معظمها أساليب بلاغية تأسيسية مهمة في الاهتمام بقضية معنى الكلام وكيفية التصرف في عرض ذلك المعنى أو كيفية تأصيل ذلك المعنى، بل في معظمها تمثل ذهنية فلسفية للتعامل في إطار تداولي مع الآخر اللفظي والآخر الفكري، ولأن وضعها قد أصبح مع تأريخ البلاغة مجرد زينة زائدة فقد أهملت تلك الأساليب وانزوت في الهامش ليتأسس العقل العربي على التشبيه وعلى المجاز في علم البيان ولكن أيضًا بمنطق الزينة والحلية لا بمنطق تأسيس الحقيقة أو مقاربة الحقيقة بقي علم المعاني الذي كان همه إثبات بلاغة الكلام في تركبه أكثر من مقاربة الحقيقة إذن نحن قد قمنا بتجاهل الحقيقة وبتجاهل المنطق من خلال تأسيس علوم تهتم بالتزيين وإخفاء ما نريد إخفاءه وإظهار ما نريد إظهاره. إن معظم ما يدرسه علم البديع الذي مازال ينظر إليه حتى الآن بأنه كالفضلة الزائدة بين علوم البلاغة له علاقة بأخطر القضايا الفلسفية والقضايا اللغوية التداولية والقضايا الحجاجية، وقضايا لسانيات النص، بل حتى القضايا النقدية في نقد ما بعد الحداثة انظر على سبيل المثال (مراعاة النظير، المبالغة، المذهب الكلامي، حسن التعليل، السرقات الشعرية، التفريع، التوجيه... وغير ذلك). فلأجل ذلك رسخ في الأذهان أن ما سمي بأسلوب الحكيم هو أسلوب تزييني فقط مع أنه أسلوب بلاغي وحجاجي من الأساليب أو الممارسات اللفظية التي تتصل بما يؤسس لقواعد التفكير ولقواعد التداول ولقواعد الحجاج. وهذا يشير إلى أن منظومة العلوم التي يتعلمها شعب من الشعوب تؤثر لا محالة في تطوره الذهني وفي مخياله الجمعي بطريقة تتسرب رويدًا رويدًا في اللاوعي المشترك، نلمس ذلك في منظومة علوم البلاغة العربية التي نقلت الهامش إلى المتن ونقلت المتن إلى الهامش، مما أدى إلى اختلال النظر واختلال الفكر عند التعامل مع الفكرة ومع ما تمثله الفكرة من لفظ أو واقع مادي ملموس فأصبحت الزينة أهم من الجوهر، وأصبح التعامل بالقشور طاغيًا على البحث على اللباب والأدهى أن تلك القشور قد تحولت إلى لباب. لأجل ذلك تجد أن أسلوب الحكيم يمثل في الثقافة العربية أسلوبًا شائعًا للتهرب من مواجهة الحقيقة، وأسلوبًا للخداع تجد السياسي يستعمله كثيرًا وتجد الشيخ يستعمله وتجد الرجل يستعمله والمرأة تستعمله لماذا؟ لأننا نعيش في مجتمعات درجت على الهروب من قضاياها الأساسية والاختباء تحت أسلوب الحكيم، حتى عند تصفح بعض المخاطبات الرسمية الإدارية تجدها تؤثر أسلوب الحكيم للتهرب من المسؤولية فتجد صياغة متقنة تجيب عن كل شيء إلا ما يدين كاتب الخطاب الإداري... إن أسلوب الحكيم الذي يراه المخيال الجمعي زينة هامشية قد تحول إلى زينة أساسية هدفها الهرب من الحقيقة.. الهرب من المواجهة.. الهرب من المسؤولية الهرب من الآخر... فهل بعد هذا من حكمة نعيشها حتى نكون حكماء، إن الوضع العلمي والفكري والفلسفي يحتم علينا العودة الصادقة إلى تراثنا لإعادة قراءته قراءة متجردة تصله بمستوى النضج الفكري والعلمي الذي رقي إليه العالم أجمع، لنستطيع أن نبني عليه لا أن نحفظه كزينة مقدسة أو كتحفة خالدة، ومع ذلك نعيش بها كأنها صنعت في عصرنا لتوها. إن قضية السؤال والجواب هي لب الفكر الأول وهي أساس التطور في شتى المجالات بصفتها كمبدأ وبصفتها كممارسة وآلية وإذا كان تعاملنا والذهني والفكري والأخلاقي سيبنى على أسلوب الحكيم فإننا لن نصل إلى الحكمة مهما عشنا! وإن الناظر إلى قضايانا الكبرى ومثقفينا الكبار وإلى شيوخ الدين وإلى طوائف السياسيين والإعلاميين وإلى حوارتهم المختلفة سيجد أن ما يطغى عليهم هو أسلوب الحكيم (الأسئلة في واد والإجابات في تهيم في أودية أخرى!!!) وبذلك فإن الحوار لا قيمة له لأن نعيش في حالة اللاسؤال واللاجواب حالة الخواء وسيستمر التوقف العلمي والحضاري بسبب أن كل حكيم!! يعالج أخطاء الحكيم السابق!! بأسلوب حكيم جديد!!. * أستاذ اللسانيات المشارك - جامعة الباحة