“أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصًا للوطن، وأن أحافظ عليه وأن أخدم الأمة وأقوم بالواجبات الموكولة إلي حق القيام”، كلمات كثيرًا ما نسمعها عبر شاشات التليفزيون أو عبر أثير الإذاعات في مختلف الدول العربية والإسلامية، حيث يتم قصر هذه العبارة على أصحاب المناصب العليا من رؤساء ووزراء وأعضاء في مجلس الشورى أو المجالس النيابية، علاوة على العسكريين. تساؤل يطرحه كثيرون: لماذا لا يتمّ إلزام الموظفين بمختلف درجاتهم وأعمالهم ومهامهم، عظموا أم صغروا، بأداء هذا القسم؟ وما هو رأي الفقهاء والمفكرين وأصحاب الشأن في ذلك؟ هل هناك رؤية شرعية وقانونية تدل على جواز مثل هذا الأمر؟ وهل تطبيقه على الموظفين من شأنه أن يعزز روح الإخلاص والأمانة والمثابرة في العمل وأن يحدّ من الفساد الإداري والمالي؟ المصالح المرسلة يبتدئ الداعية والأكاديمي الإسلامي الدكتور سعود الفنيسان حديثه بالتأكيد على أن مثل هذا الأمر يدخل تحت ما يسمى بالمصالح المرسلة للشريعة الإسلامية، فإذا رأى ولي الأمر إمكانية تطبيق "قسم اليمين" على الموظفين العاديين أسوة بالوزراء والمسؤولين فهذا أمر مباح، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة، لكنّ الفنيسان يعتبر أنّ القسم لن يمنع الموظف من استغلال وظيفته أو التعدي على ممتلكات الغير إذا لم يكن عنده ضمير يردعه عن مثل هذا التصرف، حيث إنّ كفارة اليمين لن تتجاوز 150 ريالًا إذا لم يفِ هذا الموظف بقسمه ولم يعمل به. ويوضح الفنيسان أنّه يمكن تطبيق نظام العقوبات على الموظف الذي يتجاوز حده ويستغل وظيفته في مصالح شخصية، لافتًا إلى أنّه لا يدعو إلى تطبيق نظام "قسم اليمين" بسبب عدم جدواه، فالذي يجعل الشخص يحترم وظيفته هو الضمير وإلزام الناس بالتربية والتنشئة الحسنة منذ الصغر، ووجود رادع وجزاء يمنع التجاوزات سواء كان على الكبير أو الصغير لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". عدم وجود الحاجة من جانبه يبين عضو مجلس الشورى السابق، الدكتور محمد آل زلفة أنّ كل من يتولى وظيفة فيها خدمة عامة للمجتمع، مثل الموظفين في الشركات والمؤسسات، وكتبة العدل، والأطباء والمهندسين ليسوا بحاجة إلى أداء قسم اليمين، بعكس الشخص الذي يحظى بمكانة عالية ومنصب عالٍ فإنّ أداءه للقسم يكون من باب ائتمانه على مصالح الناس والعباد. ويرى آل زلفة أنّه ليس هناك حاجة ملحة لقيام الموظف العادي بأداء القسم قبل استلام عمله، لأنّه يمكن مراقبته ضمن لوائح وأنظمة خاصة يصدرها أرباب العمل، إضافة إلى أنّ القسم لن يفي بالغرض وحده ولن يردع من ليس عنده ضمير من التعدي أو التجاوز في وظيفته، مشددًا على وجود وسائل أخرى لدى الدولة، مثل جهاز المباحث الإدارية التي من شأنها أن تحاسب وتعاقب الموظف المتجاوز في أعماله. ويوضح آل زلفة أنّ نظام "قسم اليمين" قد يسهم بعض الشيء في الحد من تجاوزات بعض الموظفين، لكنّه يعتبر أنّ تفعيل قانون "من أين لك هذا" الذي كان في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز من شأنه أن يؤدي إلى نتائج أفضل فعالية من نظام القسم، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنّ صفة الكذب الموجودة في الشخص الكاذب لن تردعه عن أفعاله وتجاوزاته حتى لو أقسم يمينًا كاذبة فهو لن يجد أي مشكلة في ذلك، ويضيف قائلًا: "تجد هناك بعضًا من خريجي كلية الشريعة الذين عمل بعضهم ككتبة عدل، أو قضاة، لم يمنعهم علمهم أن يكونوا مرتشين أو أن يتجاوزوا مهامهم الوظيفية لخدمة مصالحهم، فكيف هو الحال بالآخرين. لا مانع من تطبيقه أما عميد المعهد العالي للأئمة والخطباء في جامعة طيبة الدكتور مصطفى مخدوم فيقول: أداء المهام الوظيفية يعدّ أمرًا واجبًا في الشرع من الأصل، وهذا من ناحيتين واجبًا بالعقد، وواجبًا بالشرع، حيث إنّ العقد لا يزيد الواجب إلاّ وجوبًا، مثل: الجندي المسلم أو المرابط إذا كان موظفًا فدفاعه عن الأوطان واجب من الناحية الشرعية، وواجب من ناحية العقد، وهكذا مثل الأمر ينطبق على الموظف العادي. لكنّ مخدوم يرى أنّه لا مانع من إيجاد وتطبيق نظام "القسم" على الموظف، مع تفضيله أن يكون تطبيق مثل هذا النظام على الأمور ذات الشأن، وأن لا تكون في كل كبيرة وصغيرة حتى لا يؤدي إلى تعويد الناس على ذلك، مشيرًا إلى أنّه يفضل استخدام نظام "القسم" في المناصب العليا والوظائف ذات المكانة الكبيرة التي ينشأ من التلاعب فيها أضرار بالغة على المجتمع، فهذا واقع ومشاهد في حياة الناس مثل: الوظائف المرتبطة بالقضاء فهي وظائف بحسب مخدوم مرتبطة بالمصالح الخاصة التي لا حرج من فرض نظام "قسم اليمين" على الشخص الذي يقوم بأداء مهامها الوظيفية فهي طبقة خطيرة في المجتمع تستدعي فرض مثل هذا النظام لتحقيق مزيد من الحرص والأمانة فيها. وتترتب على الإخلال ب"يمين القسم" إذا لم يف الموظف بهذا القسم مفسدتان بحسب مخدوم، أولها مخالفة للشرع، والثانية مخالفة للعقد، فالمصلحة المقصودة هي مصلحة تأكيد الإلتزام تجاه الوظيفة، وهذا ينطبق على القاضي والطبيب والحاكم فهم أدعى للالتزام بالنظام في مثل هذه الوظائف. لا جدوى منه من جهته فإنّ الإعلامي وعضو مجلس الشورى الدكتور عائض الردادي يرى أنّ القسم على أداء المهام الوظيفية يُطلب عادة من الموظفين الكبار الذين يتمتعون بصلاحيات كبيرة في جميع أنحاء العالم، كمرتبة الوزير، أو عضو في مجلس شورى أو نيابي، كما يطلب من العسكريين أيضًا لأنّ العسكري مخوّل في استخدام بعض الصلاحيات ومنها السلاح، أما المواطن المدني بحسب الردادي فالأصل أنّه لا يختار للوظيفة إلاّ من يتحلى بالأمانة وأداء الواجب الوظيفي على الوجه المطلوب. ويضيف الردادي: لم تجر العادة بأن يؤدي الموظف العادي قسم اليمين، بخلاف العسكري الذي يؤدي هذا القسم لأنّه قد يواجه مواقف معينة تستدعي استخدام السلاح، أما الموظف المدني فإن أداءه الوظيفي يقتصر على نفسه، والبديل عن "قسم اليمين" هو الرقابة من الجهات المخولة فمتى ما شعرت بأنّ هذا الموظف أخلّ بالأمانة، عندها من الممكن أن يحال إلى تلك الجهات لاتخاذ الإجراءات المناسبة تجاه قضيته. ويعتقد الردادي أنّ تطبيق نظام "قسم اليمين" على الموظف العادي لا جدوى منه إذا لم تتوفر فيه صفات الأمانة والصدق والإخلاص، وأن لا يختار لهذه الوظيفة إلاّ من كان أهلًا لها، ومن لم تتوفر فيه تلك الصفات فإنّ الجهات المعنية مخولة بإعفاء ذلك الموظف من العمل، ملمحًا بأنّ أداء القسم لن يردع الشخص الذي لا تتوفر فيه هذه الصفات عن أخذ الرشوة أو التعدي على المال العام، حيث لابدّ للجهات الرقابية أن يكون لها دور كل بحسب مهمتها، فهناك جهات تختص بالرقابة المالية، وأخرى مخولة بمتابعة المهام المنجزة من قبل الموظف، وهناك جهات تختص بالرقابة على الأداء العام داخل دائرة العمل. الرقابة كبديل أما المفكر والأكاديمي الإسلامي وعضو مجلس الشورى، الدكتور حاتم العوني يرى أنّه بمجرد توقيع الموظف على عقد عمله ومباشرته المهام الوظيفية فإنّه يجب عليه أن يقوم بذلك على أكمل وجه، منوهًا على عدم وجود أي داع لتطبيق نظام "قسم اليمين" على كل مواطن. ويشير العوني إلى أنّ فرض نظام الرقابة على الموظفين من شأنه أن يعزز روح المثابرة بالعمل والإخلاص فيهم، حيث أنّ عدم توفر نظام رقابة شديد سيؤدي إلى تعاظم الأمر وعدم تأدية المهام الوظيفية من قبل الشخص على الوجه المطلوب، ويضيف العوني قائلا: "حتى إن قام الموظف بأداء يمين القسم، وهو متجرد من الضمير، فإنّه حتمًا سوف يستمر على ما هو عليه ولن يتغير في شخصيته أي شيء، حيث يكفر عن يمينه ويطعم عشرة مساكين"، مشددًا في الوقت نفسه على أنّ العهد في العمل مطلب يومي من قبل الموظف يجب أن يلتزم به، فالأمر ليس مقتصرًا على أداء القسم فحسب، فالموظف لا بدّ أن يؤدي أعماله اليومية على أكمل وجه. ********************************* المطلق: لا حاجة له لأن العقود تستوفي معنى القسم وفي نفس الإطار يؤكد عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، الشيخ الدكتور عبدالله المطلق، أنّ عقد العمل يقتضي أن يقوم الإنسان بعمله على أكمل وجه حتى لو لم يقسم على ذلك، مستشهدًا بعقد النكاح الذي يستوجب على الرجل أن يؤدي حقوقه وواجباته تجاه زوجته من دون الحاجة إلى وجوب القسم على عقد النكاح، وكذا هول الحال كما يقول المطلق في عقود الإيجار إذا أراد شخص ما أن يستأجر عاملًا للعمل في بيته فهل يجعله يؤدي قسم اليمين حتى يؤدي عمله على أكمل وجه، الأصل أنّه يقوم بذلك دون الحاجة إلى ذلك القسم. ويؤكدّ المطلق أنّه لا حاجة لتطبيق نظام "قسم اليمين" على الموظفين العاديين لأنّ العقود تستوفي معنى القسم، فلو أننا قلنا وسلمنا بذلك لاستوجب أن يشمل القسم كل مناحي الحياة، كأن يطبّق على السائقين أو الخدم، حيث لا يشرع في مثل هذه الحالات. ********************************* العتيبي: مراقبة الموظفين تعزز روح المثابرة بالعمل والإخلاص فيهم من جانبه يبيّن الأكاديمي والمفكر الإسلامي، الدكتور سعد العتيبي أنّ مثل هذا الأمر داخل فيما يعرف بالعهود على ما هو واجب، وهو يزيده وجوبًا، فالأصل عدم تطبيق نظام "قسم اليمين" على الموظفين العاديين إلاّ إذا نصّ عليه النظام، كما هو الحال في الأعمال التي فيها أسرار كمجالس الشورى والعسكريين، مشيرًا إلى أنّ مثل هذا النظام في تطبيقه بحاجة إلى دراسة كل بحسب عمله، إذ من حيث المبدأ الشريعة لا تمنع ذلك، سوى بعض الأعمال التعبدية الخاصة والتي لا يحلف فيها الإنسان. ويؤكدّ العتيبي أنّ نظام "قسم اليمين" لا يعطى فيها حكمًا عامًا، والأصل عدمه لأنّ العقد نفسه مأمور بالوفاء به، فهو ملزم بدونه أصلًا بحكم عقد العمل خاصًا كان أو عامًا، منوهًا على أنّ النظام إذا ما تمّ تفعيله على الموظفين في المستقبل ولم يوفِ الموظف بذلك القسم فإنّه يرجع إلى نظام العمل وأحكام القضاء لاتخاذ القرار المناسب بحق الموظف.