توالت مع بداية عام 2011م ثورات كبرى في العالم العربي لم يتوقعها أحدٌ بعد أن قيل أن الشعوب العربية قد تودع منها ، ثورات تتلوها ثورات و قلاقل و فتن الله أعلم كيف ستغير تركيبة العالم العربي و إلى أين ستصير به ، بداية من الثورة التونسية ثم المصرية السلميتين اللتين تمخضتا من ضمن ما تمخضتا عنه إلى خلع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي و المصري محمد حسني مبارك و نظامهما اللذين حكما كلا من ذلكما البلدين الشقيقين لعقود متتابعة ، ثم إنفرط على إثر ذلك عقد «الثورات» انفراط المسبحة قد بلي خيطها فتتابعت حبتها ، و إن كان بأشكال و شدة متفاوتة في كل من اليمن حيث اتسمت بالعنف و إراقة الدماء و اختلطت فيها أصوات المنادين بإنفصال الجنوب عن الشمال بأصوات المنادين بخلع الرئيس و إسقاط نظامه و في البحرين التي إتخذت منحى ً طائفيا عنيفا ضد العائلة المالكة السنية ، و في ليبيا مطالبة بإسقاط النظام و خلع الرئيس معمر القذافي الذي عود العالم على التصريحات والتصرفات غير اللائقة و لا المتزنة فهو الذي أكد للتونسيين بأن الرئيس بن علي المخلوع هو خير من يحكمهم كما أنه أعلن للمتظاهرين ضده في بلده ليبيا بأنه سيخرج للتظاهر مع المؤيدين له ، و في الجزائر حيث اتسمت بالسيطرة الأمنية الكثيفة من الوهلة الأولى و العنف الشديد ، بل و حتى في العراق التي لا تزال ترزح تحت الإحتلال الأمريكي و الفساد الأمني-الطائفي و الإقتصادي و الإداري لحكومة العراق. أحد أهم اسباب اندلاع تلك الثورات في العالم العربي هو تبني قياداتها للتوجهات الرأسمالية المعولمة المتوحشة التي فرضتها عليها القوى الإستعمارية المستترة من دول كبرى و شركات متعددة الجنسيات لصالح الأسياد الماليين للعالم مما أدى إلى أسوأ أشكال الإستغلال الإقتصادي للدول و الإستيلاء على مقدرات شعوبها و إفقار و إذلال شعوبها لدرجة أن البعض في تلك الدول أصبح يستلم مرتباً شهرياً لا يزيد عن ثمن شراء كيلو من اللحم ، و أهم من ذلك أدى إلى إملاء السياسات الخارجية لتلك الدول بما يتضارب بشكل واضح و صريح مع مصالح الوطن العليا ، و تؤججها مظالم العربدة الأمريكية-الإسرائيلية في المنطقة العربية الإسلامية مما يجعل من تلك المظالم المؤرقة بمثابة صب الزيت على النار ، و لتشكيل فهم أعمق لهذه الثورات علينا أن ننظر بالطبع إلى أهدافها و هي تعيين و التمكين لحكومات تتسم بإنسانية و رشد و تضع و تقدم المصالح العليا لشعوبها فوق كل إعتبار و بذلك وحده يمكن تحصين العالم العربي من الثورات ؟. أحد أهم أسباب الثورات على مر التاريخ كان الأثرة المجحفة ، أي استئثار النخب المتنفذة بالحياة الطيبة على حساب السواد الأعظم من الناس في شتى مناحي الحياة بداية من الإستئثار بالسلطة و إحتكارها على فئة من الناس حتى لو تسبب ذلك في ركود حركة التطور و النمو و مروراً بالقدرة على الحصول على الغذاء و الدواء و المساكن الراقية و الرعاية الصحية الفائقة و على التعليم و التدريب ، و نهاية بالحصول على الوظائف عموماً ناهيك عن الوظائف و الأعمال المرموقة و إحتكار الأموال بغير وجه حق ، بل إن القرآن العظيم جعل من إستضعاف فئة لفئة من الأسباب الداعية للتغير الإجتماعي و السياسي و الإقتصادي في المجتمعات و الدول ، يقول تعالى ( و نريد أن نمن على الذين استضعفوا و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين ) إنها سنة إلهية سارية : إن إستضعاف فئات من الناس سبب يدعو لتدخل العناية الإلهية لصالح المستضعفين و لو بعد. لكن المظالم التي حركت و ستظل تحرك شعوب العالم العربي تتخطى لحد بعيد مجرد المظالم الإجتماعية و الأثرة من قبل النخب بل هي أعمق من ذلك بكثير ، فقد ظل العرب على مدى عقود متتابعة يشاهدون سقوط منظومة التضامن العربي و الدفاع المشترك ، و جاء بعد زمن العولمة الرأسمالية المتوحشة فشاهدوا على مدى عقدين مشدوهين الشركات متعددة الجنسيات الكبرى تستولي على مقدرات بلادهم بل و سيادتها و ترمي لهم بالفتات ، و شاهد المواطن المصري و سمع عن بيع الغاز المصري لإسرائيل لعقود بثلث ثمن بيعه للعالم بينما كان يباع للمستهلك المصري بنفس الكلفة العالمية : أي غبن أكبر من هذا الغبن ، كما و شعرت الشعوب العربية بالإذلال و المهانة يوم أن أحتلت الولاياتالمتحدة العراق و عربد الأمريكي في عاصمة خلافة الرشيد و داس بحذائه كرامة أمة ، و أذل كل عربي و مسلم عندما أعتدى على أعراض النساء و الرجال و الأطفال بسجن أبو غريب بالعراق و باقرام بأفغانستان و مارس بحقهم أكبر الشنائع الجنسية ، و يوم أن عربدت إسرائيل في غزة و تمادت قتلاً و تدميراً و إستخدام كل أنواع الأسلحة الممنوعة دون أن يحرك أحدٌ ساكناً إن الضامن الأوحد للعالم العربي لتفادي الإضطرابات و الثورات هو الإصلاح الجذري العميق الذي يضمن العزة للأمة ، الذي يعيد للعربي المسلم إعتزازه التاريخي بنفسه و تاريخه كفرد من أمة هي خير أمة أخرجت للناس فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان أكرم مخلوقات الله رب العالمين ، و الإصلاح المقاوم للفساد ، فالإصلاح لم يزل هو طريق الأنبياء و المرسلين في نماء و إزدهار و سعادة و إستقرار الأمم ( إن أريد إلا الإصلاح ما أستطعت و ما توفيقي إلا بالله ). [email protected]