عندما حصل الانقلاب على شاه إيران في نهاية السبعينيات من القرن الماضي بدأت ظاهرة استخدام أشرطة الكاسيت في الوعظ الديني والتوعية الاجتماعية، والتعبئة السياسية، وكان لها أثر كبير في توجهات الرأي العام الإيراني. وبعد ذلك انتشرت الفضائيات وتعددت قنوات البث التي كانت في الماضي محصورة على الراديو ومحطات التلفاز الذي تملكه الحكومات وتتحكم فيه كيف تشاء. ومع تعدد الفضائيات -وامتلاكها من قبل القطاع الخاص- توسعت قنوات النشر وأصبح بمقدور الشعوب الاطلاع والمشاركة الفورية عن بعد في البرامج التي لها مساس بهموم الشأن العام محليًا ودوليًا. وعندما تحجب المحطات المحلية مسار الأحداث عن الجمهور المحلي يستطيع المشاهد التنقل بين عدد من المحطات، ليرى كل شيء في محطات من خارج الحدود بكل يسر وسهولة. وفي التسعينيات من القرن الماضي انطلق المارد الجبار -العصر الرقمي(digital age)- يلقي بظلاله على كل مسالك الحياة من خلال ثورة المعلومات التي بدأت بأجهزة الكمبيوتر، وتبعها الهاتف الخلوي، ومن ثم الشبكة العنكبوتية. وبعد أن تمكنت ثورة المعلومات من الانتشار على موجات الأثير بدا الإبداع في العالم الافتراضي (virtual realty) الذي لا حدود له، وما نحن إلا في البداية. ولكي لا نذهب بعيدًا نختار أمثلة حية من الواقع الآني، فإن ما حصل من أحداث في تونس ومصر، لهو أكبر دليل على أنه لم يعد بمقدور أحد حجب المعلومات، ومنع التواصل بين أفراد المجتمع، مهما كانت محاولات الحجب والتشويش على مواقع الاتصالات الرقمية. في المراحل الأولى من أحداث تونس ومصر حُجب الجوال والإنترنت في محاولة لعدم تواصل المتظاهرين ومنعهم من التنسيق السريع وإعطاء التوجيهات وتبادل المعلومات حول سير تحركات الجمهور، وأحدث ذلك الحجب ردة فعل عالمية معاكسة. وفي يوم الثلاثاء الثاني من شهر فبراير 2011م ظهر محرك «جوجل» (Google) الشهير، ليعلن وجود حلول تتجاوز الحجب وتمكن المتظاهرين من التواصل بدون رقيب من السلطات المعنية. وهذا الحدث يعد نقلة نوعية، وتاريخية، وغير مسبوق أيضًا، لأنه يطرح عدة أسئلة حول سيادة الدول ومدى فعالية المعاهدات الدولية التي تنظم شؤون الاتصالات في العالم والحد من قدرة الدول على التحكم فيها مستقبلا. هذه نقلة إبداعية في ميدان الاتصالات تأتي لتعزز قدرات مستخدمي الانترنت وتعطي دفعة إلى الأمام لقدرات البحوث العلمية والمستخدم العادي بدون استثناء. فيا لها من لحظة تاريخية نعيشها ونتعامل معها وننعم بثمارها عندما نوظفها لمصلحة الإنسانية في شتى المجالات مثل: التعليم، والطب، ومحاربة الفساد، وحماية البيئة من التلوث الذي يحدثه الإنسان بصفة عامة. إن عالم اليوم، عالم الإبداع الجماعي والتقني لكسر حواجز الخوف من المجهول، والإقدام إلى المستقبل بخطى واثقة، من أجل حياة كريمة يسود فيها العدل والمساواة، ومن بادر للأخذ بأساليب التقنية الحديثة سيكون أكثر تأهيلًا لمجابهة تحديات المستقبل في كل شؤونه الحياتية. التقنية الحديثة هي بدون شك مفتاح التفوق المتاح لكل إنسان في هذا العصر، والأجيال القادمة سيكون لها مقال غير مقالنا في الوقت الحاضر، وأحسب أنهم سيذكرون المرحلة الانتقالية التي نعيشها مثلما نذكر حاليًا، ما قبل الكهرباء، والراديو، والبنسلين، وشتى الوسائل التي لم تكن متوفرة من قبل. مرحلة التحولات العظيمة في عالم البحث العلمي وعلوم الفضاء وتقنية المعلومات التي ألغت المسافات وحلت شفرة المجهول والغموض من عقلية الإنسان ليزداد إيمانه بصانع الكون العظيم بكل كائناته ومعجزاته.. وعلم الإنسان ما لم يعلم.. سبحانه وتعالى عما يصفون.. ولله في أمره ما يشاء. إن ملاحقة الأحداث عن طريق أثر التقنية في مجرياتها وتفكيك رموزها يُمكِّن المهتمين من التعمق والوقوف على بعض مكنونات العالم الافتراضي الذي نعيش فيه والاتعاظ بما يجري تحوطًا لأي تطورات مستقبلية قد تحصل في أي مكان من عالمنا العربي. وفيما يخص الحجب فمن المتوقع إحداث تعديلات على المعاهدات الدولية الخاصة بالاتصالات، تقيد مقدرة الدول على حجب مواقع الإنترنت في وقت الأزمات، كالذي حصل في معاهدات أخرى التي تمس حقوق الإنسان.. والله ولي التوفيق.