إذا ما الشعب أراد... ساق أقدار السماء.. حين يصل الاحتقان في جسم مجتمعات إلى درجة الحشرجة، تكون الثورات آخر الدواء، فالمجتمعات كجسم الإنسان، في أول ارتفاع حرارة الجسم، يجب البحث عن السبب، قبل أن تتحول الحرارة إلى حمى، ثم تشنج فانتفاضة، فالثورات الجماهيرية تنمو عبر تراكم داخلي طويل الأمد، وهو تصاعد الامتعاض الحقيقي من الأوضاع، وانسداد سياسي يقود إلى الاحتقان الكامل، هكذا اندلعت ثورة “الياسمين” في تونس، أتت بسبب واقع مرير وظروف لا تطاق دفعت الشعب إلى مثل هذا التصرف التفاعلي، وقد كتب ليون تروتسكي، عن الثورات، فقال: «لا تميل الشعوب إلى القيام بثورة تمامًا كما لا تتوق إلى الحروب، ولكن وصول الامتعاض إلى درجة المأزق وهو «الإكراه» والنَفَس الاخير في درجة التحمل، والذي يلعب دورًا مصيريًا لنشوء الثورة، فتأتي «الظروف القسرية» لتكون الشعلة في اندلاع الثورة، تنشأ الثورات فقط في غياب أي مخرج آخر». كأنما يقول: آخر الدواء الكي. فالحكومات اللبيبة تقيس النبض العام للشرائح الاجتماعية، فتكوّن قاعدة للرأي العام تعرف به درجة حرارة الاحتقان البركاني، فالثورات العشوائية، عاتية كالريح، دامية كالشفق الاحمر، مربكة للقوى الامنية، لأنها نتاج «الهستيريا» أو راديكالية الجمهور وحدّية تصرفاته، عندما تكون وصفا للاندفاع الجماهيريّ، ووصفا لتضخّم العواطف الميدانية للناس، وهي ليست إلا ترجمة لموقف صغير جدًا، قد يكون صفعة شرطي على وجه مواطن، أو تكسير عربة بائع خضار كما حدث مع البوعزيزي، فخطورة سلوك الحشد الجماهيري خاصة حين يكون غاضبًا، حيث تصبح إمكانات الانفجار المدمر أكثر احتمالا، وعلى الرغم من إمكانية خداع الجماهير واستلابها واستغلالها وقهرها، باسم الوطن ودرء الفتنة، وربما يستمر هذا لفترات قد تطول إلا أن قوانين النفس وقوانين الجماعات تؤدى لا محالة إلى حالة من اليقظة والإفاقة تؤدى إلى غضبة الجماهير، وهى حين تغضب تتحرك كديناصور ضخم يفيق من نومه شيئا فشيئا وتبدو حركته بطيئة في البداية ثم يتجه إلى من أذاه فيدهسه بلا رحمة وربما دمر أشياء أخرى كثيرة في طريقه، وهذه الهبّة الجماهيرية كما في الحالة التونسية وما تتبعها من حركة في اتجاه التغيير تحتاج لتجمع إرادة نسبة معينة من الناس في اتجاه واحد، وذاك حين تستفز مشاعر الجماهير بشكل مؤثر ومفاجئ، خاصة فيما يمس لقمة عيشها أو مشاعرها الحقوقية أو كرامتها الإنسانية. وكثيرًا ما تنجح الثورات الشعبية إذا كان الفرد قد استوعب العقلانية والديمقراطية كسلوك يومي وقبل أن يطلبها أو يثور من أجلها لا بد أن يتبناها كمنهج حياة، ويتشربها كوعي دائم،، أما إذا طال ليل الاستبداد وكان الخيار امام الشعوب إما الكرامة أو الموت تصبح الثورة الخيار الحتمي، ورغم أن الشعوب هي خميرة الثورات ووقودها إلا أنها قد تصبح من ضحاياها، والخاسر الاول لها، إن تم اختطاف الثورة بيد مستبد جديد أو مستفيدين جُدد. إن الحكومات المتعقلة تقرأ بدقة وموضوعية خصائص وعوارض أو مقدمات شكايات وتذمرات الناس، قبل أن تدلهم الجماهير في الشوارع كموج البحر، فالجماهير تصاب بالعمى حين ينفجر بركان الاحتقان، يصف جوستاف لوبون الجماهير في حالة احتشادها وانفعالها واندفاعها وغضبها بأنها “أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي، وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات (الموقف) أو طيشان الحركة الذي يفلت العقل من عقاله”، ولذلك تلتزم الحكومات اليقظة في مراقبة سلوكيات الجماهير العفوية، والحرص على منع تكوّن بؤر احتقانية أو مجاميع توترات، وليس ذلك بالتحسس والكبت، بل بالوفاء بالالتزامات والوعود السياسية بالمشاركة الشعبية، واستدامة وشمولية التنمية، ومنع استئثار فئة خاصة دون الناس بالأموال أو بالقرارات، وتلك من أهم كوابح الثورات، وموانع فتيل الانفجار، وبذلك يمكن تجفيف منابع الغضب والهياج الشعبي ووأد الثورات، وليس كما حدث في تونس.