الرائحة والأماكن هي أكثر ما يجذبك في رواية “بروكلين هايتس” للروائية المصرية ميرال الطحاوي، فتتحول الروائح إلى نوافذ تعود بها “هند” بطلة الرواية إلى ذكريات طفولتها وخيانة الزوج، وأسماء الأماكن الأجنبية تنقل البطلة ما بين حي بروكلين في نيويورك ومسقط رأسها في تلال فرعون كما تسميها، فتذكرها رائحة النفتالين بالضيفة إحدى زوجات جدها ظلت تحمل هذا اللقب لأنها مسيحية أتى بها الجد من قرية مجاورة وتربت معها هند عندما كانت تضجر أمها من بكائها فتجلس تستمع إلى حكايات الضيفة التي تحكي عن بيت أبيها. فمن عنوان الرواية “بروكلين هايتس” (الصادرة عن دار ميريت وتنافس في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية وحصلت على جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة) نجد اهتمامًا بمكان السرد، ونتنقل بين فصول الرواية التي حملت أسماء شوارع مثل فلات بوش وباي بريدج وويندسور تراس وكوكوبار، وبروكلين بريدج وهي أماكن تقع في مدينة نيويورك حيث انتقلت هند إلى غرفة صغيرة مع طفلها الصغير تنظر من خلالها على جسر بروكلين الذي يضم على جانبيه حي منهاتن الشهير وبروكلين الذي يحتضن عشرات الأجناس واللغات من المهاجرين فسرتها الطحاوي بأنها لا يحق لها أن تترجم أسماء أحياء أجنبية لها مكانتها البارزة في الثقافة الأمريكية بما تحمله من تنوع. انتقال لغة الرواية بين يوميات البطلة في بروكلين وذكرياتها في تلال فرعون جعل الأحداث تتدرج بين مستويين من اللغة، تقريرية في وصف الأحدث في المدينةالجديدة على البطلة المغتربة حيث تتوقف ميرال الطحاوى أمام أحد الأمكنة وتبدأ بالوصف في استهلال أقسام الرواية مثل الفصل الأول حين تقول: “تراه على خرائط الإنترنت وهي تبحث عن غرفة واحدة تصلح للإيجار، في منطقة “بروكلين”. تراه في عدسة البحث “جوجل” حارة ضيقة مليئة بالالتواءات، تراه يتعامد على "بروكلين بريدج" ذلك الجسر الممتد الطويل الذي يربط الجزيرتين. يعبر على الجسر المشاة والعربات الأنيقة والسياح الذين يتأملون من فوق الجسر غروب الشمس وحدود "منهاتن" التي تبدو من فوقه كعكة مليئة بالشموع، تفاحة مستديرة ومشتهاة بأبراجها المضاءة. تترك "منهاتن" المشتهاة ورائها، ومن بين كل الشوارع تختار "فلات بوش" لأنه يصلح لها وهي تركض حاملة وحدتها وعدة حقائب وطفلًا يتساند عليها كلما تعب من المشي، وعدة مخطوطات لحكايات لم تكتمل". هذا المشهد الوصفي البسيط يحدد لغة الرواية في جزئها الواقعي، ويزداد شعرية عندما تتذكر هند تفاصيل طفولتها وتحكي ما كان يحدث في تلال فرعون من الأم التعيسة التي تنتظر عودة الأب من المضيفة حيث قرر أن يقضي أوقاته ليحل مشاكل الناس كمحامي عرفي رغم أنه تخرج من كلية الحقوق ولكنه يكره المحاكم والقضايا، ولا تستقيم الحياة الأسرية إلا عندما يجتمع الأب مع الأسرة في الشرفة الكبيرة ليحكي لهم قصص الأنبياء وحيث مات في نفس الكرسي الذي يجلس عليه دائمًا، وثمة مكان وسط بين القرية وشوراع بروكلين هو بيت الزوجية الذي لم تكن له أية حميمية وتركته بعد أن غلفت أثاثه بأغطية بلاستيكية وتتذكر منه لحظات يأس بعد أن تأكدت خيانته لها مع صديقتها. هند تعاني من اضطرابات نفسية وتجد مشكلة في التعامل مع جسدها وتقارن بينها وبين زميلاتها في مدرسة قريتها، وحتى فاطيما الإفريقية التي ترغب في أن تكون مثل ناعومي كامبل وحتى "ليليت" العجوز التي تكشف لها في نهاية الرواية أن الأحداث تتشابه وكأن الأدوار تعيد إنتاج نفسها من خلال أشخاص آخرين، حين تقرأ في نهاية الرواية كلمات كتبتها ليليت قبل وفاتها وتظن هند أنها هي من كتب هذه الكلمات وأنها عاشت مثل حياة ليليت من قبل، وتصطدم بكلمات صديقتها الروسية إيميليا بأن الأرواح تتشابه وكل ما ترينه وتعتقد أنها رأته من قبل قد يكون وقع لشخص آخر لأن الجميع متشابهون. لتعيد البطلة التفكير في مشروعها الشعري الأول الذي لم يكتمل ديوان "لا أشبه أحدًا" لتنكر بعد ذلك التصور الطفولي عن الذات بالتفرد حسب ما قالت ميرال الطحاوي. أرادت ميرال أن تجذب القارئ ليتداخل مع وحدة بطلتها هند حين تصفها وتقول "كانت تريد أن ترى حظها في أي شيء أبراج البخت وأوراق الحظ المسماة "تاروت" والكوتشينة، وكف يدها أحيانًا،جبينها لا يمنع، إذ كان هناك من يستطيع قراءته، ولكنها لم تتوقع أن تجده داخل قطعة العجين المقددة، علي ورقة صغيرة ملفوفة بطريقة حلزونية دقيقة تفتحها بعناية من يخاف قدره ومصيره الذي تحمله اللفافة، ثم تقرأ.."الذي ينتظرك ليس أفضل مما تركته وراءك". قطعت الورقة إلى نتف صغيرة، وقذفت بها في كوب الماء، هكذا وجدت نفسها بين ريح الشمال وريح الشرق وحيدة وبائسة". وبرغم أن بطلة "بروكلين هايتس" وجدت في أمريكا المساحة الحرة لتحاول إعادة علاقتها السوية، لكنها بقيت بائسة خائفة، أسيرة لهوسها بالأبراج. والبحث عن دور سينمائي لا يشبه البطلات الكلاسيكيات حيث تنتظر البطلة المستسلمة في مجتمع ذكوري، وكأن ميرال الطحاوي أرادت أن تقول في روايتها إن الوحدة وما قد نتركه خلفنا في الشرق سنجده في الغرب أو أى مكان في تلال في فرعون أو بروكلين هايتس.