رفضت الشاعرة السودانية روضة الحاج محمّد عثمان بشدة التسليم بنظرية “الفن للفن”، معتبرة أنها نوع من “الفوضى والعبثية”، من واقع قناعتها أن للفن رسالة “ما”، واجب على من يسلك طريقه أن يؤديها خدمة لمجتمعه، مبينة أن دخول السياسة إلى شعرها جاء من منظور أن السياسة جزء من الحياة بالضرورة، مؤكدة أنها تهتم لأمر هذه الأمة، فتبكي لكل أم في فلسطين والعراق عراقية ودارفورية، كما تولي اهتمامًا خاصًا لأمر بلدها السودان الذي وصفته ب “العظيم الجميل المبتلى”، مبينة أنها حريصة على أن تجد الصبايا والنساء فيما تكتب بعض الذي وددن قوله ولم يقلنه.. جاء ذلك في أمسية تكريمها بمنتدى الاثنينية بجدة مساء أمس الأول وسط حضور نسائي مميز، كما كان للسودانيين حضورهم اللافت أيضًا.. الشعر والقضية استهل الأمسية مؤسس الاثنينية عبدالمقصود خوجة مرحبًا بالضيفة، ماضيًا من ثم إلى تقديم لمحة وسمات عن شعرها بقوله: من الملاحظ أن القصيدة عند ضيفتنا الكريمة قضية ورسالة، توظف لغة أنثوية، يفترض أن تسري نعومة ودلالاً بين الخدر وفتيت المسك، لكنها أبعد ما تكون نجيعة عن الزينة والمرايا والعطور، صحيح أنها لغة لا تخلو من بكاء ونصيف يسقط وإن لم ترد إسقاطه، وأنامل بين الخضاب والخواتم، ثم ماذا؟ إنها تشكو حالها، فبعض قصيدها تصوير لواقع يدمغه هلع وخوف، (لقد خلعوا الأساور من يدها، أخذوا الخواتم والخلاخل والحجول، سكبوا على كلب صغير كان يتبعهم شذى عطرها، بل طلبوا المزيد، وفي هذا المعترك.. العقد ضاع.. من لها بغير شرطي لينصفها؟ لكنه أخذ أقوالها في تبرم واضح).. وليس أمامها إلا أن تختم بكائيتها: (عجبي.. فكل المخفر العربي يعرف سارقي.. وضد مجهول بلاغي دونوه .. فأخبروني ما أقول؟؟). ويتابع الخوجة حديثه مضيفًا: وأحسب أن قصيدتيها “خطئي أنا” و “بلاغ امرأة عربية” مارسا طغيانًا شعريًا على الساحة الأدبية بخطاب جديد، تميز باتكائه على جزالة المفردة الشعرية، فشعرُ فارستنا فخ تنصبه للمتلقي، الذي يجد نفسه واقعًا في أسره. فشعرها يحمل العديد من الإشارات التي تدل بصمته الوراثية أنها شاعرة تستطيع الوصول إلى عبارات موسيقية ذات سمات وخصائص مميزة، يتضافر فيها التشكيل الإيقاعي مع كيمياء النص، كما كرست الصوت والإلقاء وسيلة للاحتفاء بألق الشعر لجذب العقول قبل القلوب. كما أعتقد أن المدن لدى شاعرتنا، تمثل ذاكرة المكان الذي لا ينفك عن أصول وجذور، ترفل فيها الروح، وتغذي الوجدان كلما هزمه الواقع المرير، وهو شعور ينتاب الكثيرين، ويبدو أن بعض الشعراء تمر بهم لحظات تطول أو تقصر، يتسامون فيها عن الألم بذكر الأماكن التي تعيش في ذاكرتهم، وتسعفهم في لحظات الضيق والأسى، هكذا تجد شاعرتنا نفسها منساقة إلى مسقط رأسها، تناجي مكوناته التي تحسبها لا تتغير أو تتبدل، لكنها تتماسك قسرًا حينما لا تجد ما تتمنى.. (لكنني لم أجدها مثل ما عهدت أما رؤومًا لفقدي قد تواسيني). ويمضي الخوجة في حديثه كاشفًا عن جانب آخر للشاعرة روضة والذي يبرز من خلال تقليبه لحواراتها السابقة؛ حيث يقول: المتتبع للحوارات الصحافية التي أجريت مع ضيفتنا الكريمة، عن رؤيتها الخاصة لتجربتها الشعرية، يلحظ أن الشعر عندها قنديل حياة، يضيء عتمتها وينمقها، ويعبر عن مكنونات النفس البشرية، فيغسل أحزانها، ويهب أفراحها الآخرين باعتباره أداة توظيف، لحفز الهمم نحو القيم السامية، والترويح عن النفس، وتنقيتها من هموم الحياة ولأوائها. كما شق قلمها الرشيق لذاته طريقًا في متردم الشعراء، فاستطاعت اقتحام درب، كان قصرًا على البارزين منهم، بتمردها على الموانع والحواجز المتعددة التي قد تحول دون انتشار الإنتاج الإبداعي لنون النسوة، مما جعل أصداء شاعريتها المحلقة فراشات يجتذبها نور قصي. ويضيف الخوجة: لم يقتصر النشاط الإبداعي لضيفتنا الكريمة على الكتابة الشعرية وحدها، إذ تعداه إلى الإعلام المرئي والمسموع، وشاركت في مهرجانات وملتقيات شعرية وثقافية خارج بلادها، ويتميز خطابها الشعري بملامسة قضايا كونية، لا يعترف الشعر فيها بالجغرافيا، فترجمت بعض قصائدها إلى الإنجليزية والفرنسية. ومن خلال تتبعنا لدواوين شعر ضيفتنا الكريمة، نلمس ابتعادها عن لغة الإغراب والغموض، باتخاذ السهولة بابًا ولجت منه إلى مدينة الشعر، فأثرت قاموسها الشعري بالكثير من الاقتباس من آيات الذكر الحكيم، واستلهمت من كنوز التراث، رافدًا خصيبًا يطرّز مفرداتها برونق بهيج وجرس عذب، بما يتناسب والواقع المعاش، ومما يؤكد ذيوع وانتشار شعرها، أنه لم تصبح من شروط الإبداع الشعري العربي دلالته على الهوية النوعية للمبدع، لا سيما ومنذ تدفق نهر الشعر العربي، كانت ذكورية الإبداع الشعري، هي المظهر التعبيري عن الحالات الإنسانية بكل تقاطعاتها، وبالرغم من أن الأنثى شكلت اختراقات عديدة لهذه الظاهرة، وكسرت تراتبية الإيقاع الواحد في الشعر العربي، فقد ظلت هذه الاختراقات بكل خصوصياتها، تأتى بصورة متقطعة وغير مكتملة الحلقات. الشاعرة بديعة كشغري آثرت أن تعبّر عن ترحابها بالشاعرة بقصيدة قالت فيها: في جمعنا رقص القصيد مرارا لكنه هذا المساء تبارى جمع الأحبة والقوافي عطرهم في روضة نشروا الشذا أشعارا خنساء سودان تهل فمرحبا في جدة المقصود حلت دارا نيل غائب وانفصال حزين أما الدكتور عبدالله مناع فتساءل في بداية كلمته عن غياب القصائد التي تتناول النيل موضوعًا لها في الشعر السوداني رغم وجود النيلين هناك، مشيرًا إلى أن الغناء للنيل يلحظ في الشعر المصري مثل قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي.. مبينًا أن الشعر السوداني عرف عبر قصيدة “أغدًا ألقاك” التي غنتها أم كلثوم وهي للشاعر السوداني الهادي آدم، رغم أنها أيضًا لم تكتب للنيل، معبرًا عن أسفه لشبه الانفصال بين الثقافتين السعودية والسودانية رغم أن الفاصل الجغرافي بين البلدين ليس إلا البحر الأحمر. وعرّج منّاع في حديثه إلى الأجواء السياسية المشحونة والخطرة التي يعيشها السودان حاليًا عبر عملية الاستفتاء ونذر الانفصال الذي بات وشيكًا،. وعبر عن بالغ أسفه أن تتزامن هذه الأمسية مع اليوم الثاني من الاستفتاء على انفصال السودان. بناء وليس هدمًا أما الدكتور عبدالمحسن القحطاني رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي الأدبي بجدة، فارتجل كلمة قصيرة أشار فيها لمحًا إلى فعاليات الخرطوم عاصمة الثقافة العربية، وعن لقائه مع الشاعرة روضة الحاج في القاهرة. مبينًا أن روضة الحاج صاحبة قضية فهي تهتم بقضايا المرأة العربية والوطن، مشددًا على أن المرأة العربية شامخة وطامحة ووفية، لافتًا إلى أن روضة الحاج تجبر المرء على احترامها، لأن لا تقول إلا ما يبني ولا يهدم. كما رحبت الشاعرة السورية ذكرى الحاج حسين بالشاعرة روضة الحاج بكلمات جميلة منثورة. عقب ذلك طافت ضيفة الاثنينية روضة الحاج بالحضور في مسيرتها مع الإعلام والشعر، مشيرة إلى أثر والديها عليها في التقرب من الشعر، ومحاولة كتابته وهي في الخامسة من عمرها، مبينة أن حضور المذيعة ولد في داخلها عندما كانت في السادسة من العمر، عندما كانت تقدم طابور الصباح، واستمر معها إلى أن امتهنت الإعلام، ثم قدمت روضة مجموعة من قصائدها استهلتها بقصيدتها المشهورة “بلاغ امرأة عربية”، وقصائد أخرى. مقدمة الأمسية نازك الإمام أبدت انحيازًا واضحًا لجنسها في المداخلات والأسئلة، حيث أعطت أغلب الفرص لهن، ودارت الأسئلة والمداخلات حول تجربة الشاعرة، ونظرتها لواقع الثقافة العربية، والمشهد الشعري تحديدًا.. سؤال حول ما ينقص الشاعرة السعودية لتصل لقمم الشعر والشعراء على مستوى العالم العربي، وبخاصة بعد نجاح تجربتها في مسابقة شاعر المليون الخليجية، أوضحت روضة أنه لا ينقصها شيء قائلة: أعرف الكثير من الأسماء المميزة سواء في الشعر النبطي أو في الشعر الفصيح من المملكة العربية السعودية، وهي أسماء فارهة ومميزة أضافت الكثير للتجربة الشعرية، ولعل النساء في العالم العربي إن فاخرنا بأسماء تاريخية ينتمين إليها تجذر للتجربة النسائية في الكتابة الشعرية، فأظن أن الخنساء ستقول إنها من هذه الديار، وكثيرات من الأسماء القليلة التي تفضل علينا المؤرخ العربي فذكرها وإن لم يذكر من النساء الكثير، وأنا سعيدة جدًا بكثير من الأسماء التي استمعت إليها، والشاعرة الدكتورة بديعة نموذج لهؤلاء الشاعرات. وفي ردها على سؤال حول قدرة الصوت على شخصنة الصورة الشعرية قالت الحاج: أظن أن الشعر أصلًا إلقاء، والقصيدة العربية كانت تؤدى فيما يشبه الإيقاع أو اللحن، وإلقاء الشعر في ظني واحد من الأدوات المهمة جدًا في إيصال المعنى والحرف، وإيصال ما وراء القصيدة، فبعض الأحيان بعض الشعراء كما تعرفون أكثر مني يفسدون قصائدهم بسوء الإلقاء، وهو موهبة أخرى، ومنح أخرى من ذلك الرزق الكثير الذي يخص به الله بعض الناس، فقد يكون الشاعر جيدًا في كتابته للشعر، ولا يمتلك هذه الملكة في أن يلقي هذا الشعر بالصورة الجميلة، ومن الشواهد التي تذكر في هذا السياق أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ، كان لا يحسن إلقاء قصائده، فقيل عندما يقرأان معًا نصوصًا جديدة، فكان الناس تحمر أكفهم بالتصفيق لحافظ لأنه كان يجيد إلقاء هذه القصائد، وعندما تنشر هذه القصائد في اليوم التالي في الصحف، كان الناس تحمر أكفهم وهم يصفقون في بيوتهم لقصيدة شوقي عندما يقرؤونها يجدون هذا الجمال الذي لم يكن واضحًا عندما قرأ أمير الشعراء نصه، فإلقاء الشعر جزء أساسي من إيصال المعنى، ومن وصول الصورة كاملة. وحول علاقة شعرها بالسياسة قالت روضة: ليس كل شعري سياسة لأنها هي جزء من الحياة بالضرورة، أنا أهتم بالشأن العام لأنني أعتقد أنه إحدى الرسائل المهمة لمن يمتلك الحرف ولمن يمتلك الموهبة، عليه أن يؤدي بعض الدين نحو أمته، وأنا من قبيل هذا الدين، أهتم لأمر هذه الأمة، فأبكي لكل أم فلسطينية، مع كل أم عراقية، مع كل أم دارفورية، أحزن لكل ما يحزن في وطننا العربي والإسلامي، وما أكثر ما يبعث على الحزن، وليس ذنبي إن كانت وسيلة للتعبير عن هذا الحزن هي الشعر، ولكنني أنا كنت أقول دائمًا لصويحباتي، إنني حريصة على أن تجد الصبايا والنساء فيما أكتب بعض الذي وددن قوله ولم يقلنه، كما أنني مهتمة لأمر بلدي السودان العظيم الجميل المبتلى، فهذا جزء من تكويني ما بيدي أن أغير في الأمر شيئًا، سأظل أكتب ما دام في قلمي مداد، عما أؤمن به حقًا، وما أتمناه لهذه الأمة العربية والإسلامية، ولوطني السودان، وسأكتب عن أشواق وأشجان النساء أيضًا. وفي سؤال حول رأيها في نظرية “الفن للفن” التي ينتهجها البعض ويروّج لها، أشارت الشاعرة روضة الحاج إلى أنها لا تؤمن بهذه النظرية على الإطلاق، بل إنها ترى خلاف ذلك تمامًا، مشيرة إلى أن الفن رسالة، وعلى هذا فإن نظرية الفن للفن لا تعدو أن تكون نوعًا من العبث والفوضى، فلا بد من رسالة ما لأي فن، ولا بد من غاية يصل إليها ليكون فاعلاً ومؤثرًا في المجتمعات.