تظهر بين الفينة والأخرى مقالات تنبئ عن فكر عجيب، وتحوي عبارات تؤكد أن كاتبها لم يمعن النظر فيها، بل ولم يضع في اعتباره المتلقي وتقبّله لها، فهي تعد تنفيسا لمكنون داخلي أراد صاحبه إظهاره، بغض النظر عن أي اعتبارات. ومن ذلك ما ظهر مؤخرا من مقالات (في مجلة اقرأ وفي هذه الصحيفة وغيرها مع بالغ الأسف) تلقي باللوم على أمانة المدينةالمنورة كونها منعت التدخين في المنطقة المحيطة بالمسجد النبوي أولا وامتد ذلك إلى ما يقع ضمن الدائري الأول والثاني في المدينة، وتحيطها بالعتب الشديد، ووصل الحال بكتّاب تلك المقالات إلى التهكم من إجراءات الأمانة وتمادوا في ذلك إلى اتهامها بإيجاد سوق سوداء وسعيها إلى ذلك، وهو ما أدى إلى رفع سعر الدخان!. وكان المفترض أن يحترموا أقلامهم ويترفعوا عن مثل هذا الطرح، وكونهم من المدخنين (وهو ما يغلب على الظن، عافاهم الله) لا يبرر لهم بأن يطالبوا أن يكون هذا الداء متاحا للجميع، وأن يُسمح ببيعه بجوار المسجد النبوي وما يحيط به؛ فالمدينة تعطّرت بأنفاسه صلى الله عليه وسلم فكيف لنا أن نلوثها بهذه السموم المنبعثة جراء التدخين؟! وكم هو مؤسف أن يصل الحال بكتّابنا إلى هذا المستوى؛ فهم قد اختيروا ليمثلوا مجتمعهم ويطالبوا بالخير له ودفع مايضره أو يسئ له، ومثل هذه المطالبات لا أتصور مطلقا أن تصب في هذا الجانب. إن وجود سوق سوداء دليل على نجاح الخطوات التي أريد منها منع التدخين، وهذا يجيّر للأمانة وللقائمين عليها، وبدلا من أن يجد ذلك الثناء وإزجاء الشكر تكون النتيجة عكسية من سوق اتهامات وتنديد..! وأما مسألة غلاء أسعار الدخان فهو مؤشر نجاح آخر، وهذا مطلب يتمناه العقلاء؛ فعندما تكون الأسعار منخفضة فإنه يتاح لكل أحد (حتى الأطفال، وهذا أمر مشاهد) شراء هذا السم، وأما غيرهم ممن يغلبه هواه ولا يستطيع كبح جماح نفسه فإنه سيشتري كمية مضاعفة، وهذا من البداهة بمكان، فهل ننتقد إجراء كهذا؟ إن جائحة التدخين تستوجب تكاتف الجميع؛ فقد انتشرت انتشار النار في الهشيم، وعمّت الأوساط جميعا أطفالا ورجالا ونساء، وبالتالي فإن من الواجب المتحتّم على حكماء المجتمع الوقوف ضدها وقفة رجل واحد، بإيجاد الحلول الناجعة والسبل المتاحة التي من شأنها زوالها أو تقليصها على الأقل. وفي الوقت الذي تحارب دول عديدة التدخين وتحظره في الأماكن العامة وتفرض غرامات مالية كبيرة على المدخنين (وصل إلى فرض عقوبة السجن)، وتمنع قطعيا الدعايات لهذا الداء، تأتي أقلام وتطالب بالسماح ببيع الدخان (وبطبيعة الحال تدخينه) في تضاد عجيب! وهنا لابد من الإشادة بتطبيق عقوبة من يدخّن في مطاراتنا، ويرجى تعميم ذلك على كل من يدخّن في الأماكن العامة، وهو أمر مطبق في بلدان مجاورة في خليجنا ودول عربية وأوربية كثيرة، ولتُعلن بلادنا أنها خالية من التدخين، فإن هذا سيزيد صورتها بهاء ومكانتها رفعة، فهل نأمل في ذلك؟. E mail:[email protected]