* يقول الرحّالة العربي المعروف (ابن بطوطة): حطّت بنا الطائرة في مطار عربي شهير يقع على سواحل (بحر القلزم).. هبطنا على أرض خرسانية تبعد عن أقرب مبنى نحو ثلاثة فراسخ (الفرسخ 3 أميال).. وبعد معاناة نُقِلنا على (باصات) الإبل أكثر منها راحة، لننزل في ساحة كبيرة، رأيت فيها شيوخًا ونساءً وأطفالاً تبدو عليهم وعثاء السفر، بعضهم يفترش الأرض في حالٍ يُرثى لها من الإرهاق، وانفلات الأعصاب! سألت عنهم فقيل لي: «هذا أمر بات مألوفًا، إنهم مواطنون وقعوا كما وقع الآلاف قبلهم كضحايا لجدولة الطائرات»!. كان هذا أول تناقض اصطدم به.. دعوت الله لهم بالإعانة؛ ثم انطلقت إلى خارج المبنى حيث وجدت رهطًا من شباب البلد يتسابقون إلى نقل المسافرين بسياراتهم الخاصة مقابل ثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة.. قلت لأحدهم بعد أن ركبت معه: جميلٌ أن تعملوا في أوقات فراغكم لزيادة دخلكم.. فأطلق الشاب تنهيدة مدويّة أردفها بالقول: «عفا الله عنك يا شيخ، هذا مصدر رزقنا الوحيد، فنحن فئة من أهل البلاد يسموننا العاطلون عن العمل، مستقبلنا مظلم رغم إننا متعلمون، إننا نستأجر السيارات لنعمل عليها بعد أن تقطعت بنا السبل».. سألته: كيف لا تجدون أعمالاً وبين ظهرانيكم كل هذا الكمّ من الأجانب.. فأجاب: ليتهم يكفون عن ملاحقتنا وفرض الرسوم والمخالفات التي تقصم ظهورنا؛ ثم انفجر في حديثٍ مؤلمٍ التزمت معه الصمت إشفاقًا على الشاب الكادح المسكين!. * على يسار الطريق إلى الخان (الفندق)؛ كانت صهاريج النفط تنتصب بشموخ كرمز من رموز الخير والنماء.. أمّا على الجانب الأيمن فقد كانت جحافل السيارات تقف بانتظام أمام أكواخ كُتب عليها (صرّاف آلي).. لفتني المنظر فسألت صاحبي الذي ابتسم قبل أن يقول: «كل شهر وأنت بخير، اليوم هو الخامس والعشرون من الشهر؛ إنه يوم قبض الرواتب، اليوم الأكثر بهجة في حياة إخواننا الموظفين».. قلت: وكم ستستمر هذه البهجة والروح العالية؟ فمط شفتيه ثم قال: مجرد سويعات؛ يفرح فيها الموظف بتضخمٍ مؤقتٍ في رصيده، ثم تعاوده نوبة الاكتئاب بعد أن ينسف البنك، والكهرباء، والهاتف، والإيجار تسعة أعشاره، ليبقى له العُشر الذي يتحتم عليه أن يقيم به صلبه حتى اليوم ذاته من الشهر المقبل! ولمّا كنت على علمٍ بحال الشاب العاطل، فلم أتجرّأ على سؤاله: مَن يشتري إذن تلك (الشقق) التي تصل أسعارها إلى (مليون)، والتي تكاد إعلاناتها أن تسد كل الطرقات؟!. * الناس هنا يتحدثون كثيرًا في آلة يسمونها (الجوّال)، يعشقونها ويتنافسون في شرائها، وتجارة الكلام والجوال تجارة رائجة بينهم.. إنّهم يتناقلون بها الطرائف عن أسعار الطماطم الملتهبة، وأسعار الخرفان التي جاوزت رواتب بعض الموظفين.. عن الجن، وعن نوادر الفساد المضحكة.. ثم يتحلّقون ليلاً حول أجهزة التلفاز التي تغرقهم في عالم صاخب من الغناء والتسطيح! لكنهم رغم كل شيء يحبون بلادهم ويعشقونها بشكل لم أعهده في شعب آخر. * في الفندق.. يبرز التناقض على أشدّه .. فبينما يتزاحم معظم الأهالي في الخارج على جِرار (الفول)؛ فإن النزلاء هنا -وأغلبهم من الأجانب- يفطرون على الزبد والمربى، ثم يدخنون (السيجار)، ويتحدثون عن صفقات بالملايين! طلبت من شاب يعمل حارسًا للأمن أن يرشدني إلى مجالس أدباء ومفكري البلد؛ كي استوضح منهم ما أشكل عليَّ فهمه.. فضحك طويلاً قبل أن يناولني مجموعة من الصحف قائلاً: هنا يجتمع مفكرونا، لكنني أحذّرك أن تصدق كل ما تقرأ، فمعظمهم يُنظّرون من منتجعاتهم في الخارج! فتحت الصحف علّها تزيل شيئًا ممّا أثقلني حمله؛ فصدمت بأرباب الفكر منغمسين -وكأنهم قد انقسموا إلى أهل دين وأهل دنيا- في جدالات بيزنطية لا علاقة لها بواقع الناس وهمومهم.. فلم يزدني ذلك إلاّ رَهَقا!. * أغلقت الصحيفة.. وحزمت أمتعتي.. ثم أشرت إلى أقرب (شاب عاطل) كي يعيدني بسيارته (المستأجرة) إلى المطار لأفترش الأرض مع المفترشين، في انتظار طائرة تقلني بعيدًا عن كل هذه المتناقضات!. [email protected]