عندما أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحديد المهور حاجّته امرأة قرشية قائلة له: كيف تحدد المهور والله جلَّ شأنه يقول: «وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه» فقال عمر: «أخطأ عمر وأصابت امرأة». ولم يعنفها أو يقل لها كيف تجلسين في مجالس الرجال ومحرم عليكن معشر النساء مخاطبة الرجال فمكانكن بيوتكن! كما لم يعنفها أحد من الصحابة بقوله لها: كيف تجرئين على محاجة رجل وأنت امرأة والرجال قوامون على النساء. سقت هذه المقدمة توطئة لما سأتحدث عنه عن فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء رقم (24937)، وتاريخ 23/11/1431ه التي تحرّم عمل الكاشيرة؛ لأنه كما جاء في إجابة اللجنة على سؤال المستفتي «لا يجوز للمرأة المسلمة أن تعمل في مكان فيه اختلاط بالرجال، والواجب البُعد عن مجامع الرجال، والبحث عن عمل مباح لا يعرّضها لفتنة ولا للافتتان بها، وما ذُكر في السؤال يعرّضها للفتنة، ويفتتن بها الرجال، فهو عمل محرّم شرعًا، وتوظيف الشركات لها في مثل هذه الأعمال تعاون معها على المحرّم، فهو محرّم أيضًا». كما سقتها لئلا يُقلل من شأن ما سأكتبه عن هذه الفتوى لكوني امرأة، وللأسف الشديد إن الثقافة المجتمعية السائدة لا تتقبل من المرأة الحديث في أمور دينها، ومناقشة علماء الدّين، فيستخفّون ممّا تقوله وتكتبه، فأمور الدّين والإلمام بها باتت وقفًا على الرجال؛ لذا اقتصرت عضوية المجامع الفقهية ولجان الفتاوى عليهم، وما علينا نحن النساء إلاّ تقبل تلك الفتاوى والأخذ بها دون نقاش، وإلاّ يعدُّ تطاولاً على العلماء، ومخالفة لدين الله، وها هو الفاروق -رضي الله عنه- تقبّل محاجّة امرأة له بروح طيبة، وأعلن وهو عمر بن الخطاب أنه أخطأ، بينما أصابت امرأة، فهل سيتقبّل علماؤنا الأفاضل ما سأقوله بنفس الروح التي تقبّل بها سيدنا عمر -رضي الله عنه- محاجّة تلك المرأة له؟ مع إجلالي وتقديري للجنة الدائمة للبحوث والافتاء، فكما يبدو من نص الفتوى أن اللجنة اكتفت بوصف المستفتي لعمل الكاشيرة، ولم تتحرّ وتتثبّت من صحة وصف المستفتي لطبيعة عملها، والهيئة التي هي عليها التي تخلو من كل مظاهر الفتنة والافتتان، فالكاشيرات مرتديات عباءاتهن، وواضعات النقاب، ولا يُرى منهنّ سوى أعينهنّ الخالية من مساحيق الزينة، مع أن ابن قدامة الحنبلي في كتابه «المُغني» يقول: «لأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء» ،كما أن هذه الفتوى لم تستند على دليل من القرآن أو السنة، لأنه لا يوجد هذا النص، وإن كان الإسلام يحرم الاختلاط، فكيف أباحه في الطواف حول الكعبة المشرفة، وفي السعي بين الصفا والمروة؟ بل يوجد في القرآن والسنة القولية والفعلية نصوص تبيحه، كقوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ ...)، وكتب التفسير والسيرة النبوية ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم خرج لمباهلة نصارى نجران، ومعه ابنته فاطمة، والحسن والحسين -رضي الله عنهم أجمعين-، وكان هذا في السنة العاشرة للهجرة أي بعد فرض الحجاب بست سنوات. وقوله تعالى في آية المداينة (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء...). فإن كان الإسلام يُحرم الاختلاط كيف تشهد النساء في توثيق عقود مداينة الرجال لو لم يكن في مجالسهم؟ والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُحرِّم لقاء الرجال بالنساء، ولا دخول الرجال بيوت الغائبين «المسافرين»، وإنَّما أكَّد على تحريم الخلوة بالمرأة التي غاب زوجها عن بيتها، وظلَّت الإباحة للقاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلاَّ ومعه رجل أو رجلان)، لقد مارست المرأة المسلمة في عصر الرسالة، وما تلاه من عصور حقوقها الدينية،والمدنية، والمالية، والسياسية، والاجتماعية، والتعليمية، والثقافية، والحربية، فكانت لها مساهمات كبيرة في نهضة الأمة الإسلامية وبناء حضارتها. لم يوجد في عصري النبوة والخلافة الراشدة مظاهر الغلو في الفصل بين الجنسين التي نشهدها في مجتمعنا السعودي الآن، فكان النساء يصلّين خلف الرجال في المسجد النبوي بلا فواصل ولا حواجز، ومارسن مختلف الأعمال والمهن، وشاركن في تأسيس الدولة الإسلامية الأولى، وتحمّلن الحصار في شعب أبي طالب، وهاجرن، وبايعن، وقاتلن، وعالجن الجرحى، وشاركن في الحياة العامة، وتولين الحسبة، ففي مكةالمكرمة كانت (أسماء بنت نهيك الأسدية -رضي الله عنها-) تراقب الأسواق، وكانت تضرب الغشاشين بعصاها، وفي المدينةالمنورة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تولّت الحسبة الشفاء بن بني عدي -رضي الله عنها-، كما ولّى ابنته أم المؤمنين السيدة حفصة -رضي الله عنها- على نظارة وقفه، ونظارة الوقف تتطلب التعامل مع الرجال، وروت المرأة أحاديث وأفتت، وناقشت وجادلت في قضايا فقهية، وعلّمت فقهاء وعلماء وأجازتهم، كما تعلّمت من علماء وفقهاء وأجازوها، وعملت في الرعي، والزراعة، والتجارة، ومارست البيع والشراء، فخالة جابر بن عبدالله كانت في عدّة، فأرادت أن تخرج إلى نخل لها تجذّه، فقال لها رجل: ليس لك ذلك، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اخرجي فجذّي نخلك، فعسى أن تصدقي، أو تصنعي معروفًا. {ابن الأثير: أسد الغابة 5/634}. فالمرأة كانت تمارس البيع والشراء في العهد النبوي، وما تلته من عهود، وكثيرًا ما كانت تقدم المدينة بجلب لها (بضاعة لتبيعها)، فإذا باعتها واستوفت حقها، اشترت من السوق ما قد تحتاج إليه لنفسها وأسرتها، أو ما تريد أن تعود به لتبيعه في بلدتها، أو منازل قومها. {د. محمد سعيد رمضان البوطي: المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني، ص90، ط1، 1417/1996م، دار الفكر، دمشق – سوريا}. كما جعلت المرأة في عصر الرسالة بيتها دارًا للضيافة، فكانت الصحابية المعروفة “أم شريك” تفتح بيتها للضيفان، فينزل عليها المهاجرون، وغيرهم، وكان ذلك شأنها، تدبر منزلها، وتجعله دارًا لضيافة القاصدين. وهذه امرأة سوداء قيل اسمها خرقاء، كانت تقمّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي امرأة نسجت بردة، وقدمتها للنبي صلى الله عليه وسلم ولبسها، وقالت وهي تقدمها له «نسجتُها بيدي فجئتُ لأكسوكها»، بل كانت المرأة في عهد النبوة تقاتل، وتطبب الرجال، فها هي رفيدة -رضي الله عنها- أول ممرضة في الإسلام، التي وثق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدرتها ومهارتها الطبية، فائتمنها على أصحابه، ويشير أن يُمرض سيد الأنصار سعد بن معاذ عندما أصيب في غزوة الخندق في خيمتها قائلاً: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» {سيرة ابن هشام: 2/ 239} فهذه شواهد من السنة الفعلية تبين طبيعة الحياة في المجتمع المدني في عصري النبوة والخلافة الراشدة القائمة على تعامل المرأة مع الرجال في مختلف الأعمال، والنظر إليها على أنها إنسان، وليس جسدًا محط كل فتنة، ومنبع كل شهوة، نظرة مبنية على الثقة التي باتت شبه منعدمة في مجتمعنا السعودي، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يشير بأن يمرض سعد بن معاذ -رضي الله عنه- في خيمة رفيدة، وكانت الغزوة قد انتهت، ويصدق رواية أثيلة بنت راشد ويقول لها: بارك الله فيك، بينما نجد بعض قضاتنا لا يثقون في أقوال المرأة، ولا في الشهود الذين يطلبونهم منها، ويصدرون صكوك أحكامهم طبقًا لأقوال خصومها!! إن فتوى تحريم عمل المرأة كاشيرة لما فيه من تعامل مع الرجال جاءت على خلاف ما كانت عليه الأمة في عصر الرسالة، ولها أبعاد على مختلف المستويات. للحديث صلة.