تظل جائزة نوبل متربعة على قمة الهرم العالمي في قيمة الجوائز المعنوية، ولهذا، أصبحت علامة فارقة بين الجوائز العالمية، وإن كانت في بعض جوائزها تذهب إلى دعم تيار معين لنهضته وتشجيعه وتقديره معنويا. وملاحظ أن الإعلام العربي يهتم كثيرا بمتابعة الجوائز ومنها نوبل بخاصة الجانب الأدبي متخرصاً الأقاويل بعد الأقاويل، ومع أهمية ذلك إلا أن إهمال الاهتمام بالجوائز العلمية محل نظر، فلا نكاد نقرأ صحيفة عربية إلا وهي ترشح فلانا وفلانة، وكأن الأخبار تُسرَّب إليها في الأدب بخاصة ما يشير إلى طموحات الفكر العربي وكأنها توقفت عند الآمال الفكرية، ومع كون الأدب مادة إنسانية مهمة تحمل قيم الإنسان وفكره وتحليله للحياة بما في ذلك الحراك العلمي والسياسي وغيرهما إلا أنه يظل رافداً من روافد التنمية الشمولية، وربما يرجع الشعور بمتابعة الأدب نوعاً من الترفيه عن النفس، حيث تعد ثقافتنا العربية مهتمة بالتنظير بصورة يمكن أن تحصل بها على جوائز نوبل كلها لو كانت في ذلك. في عام 2004م كان هناك تجديد تشكيل تنظيمي لجامعة مانشستر في بريطانيا بعضه جاء من خارج بريطانيا، وهي جامعة ثرية لديها الكثير من الأملاك وتعمل على مشاريع كثيرة من المصانع والشركات. وقد أعلن حينها أن الجامعة سوف تعمل للحصول على إحدى جوائز نوبل خلال عشر سنوات وفقا لخطة مرسومة، ولم تمض إلا نحو ست سنوات حتى تحقق للجامعة ما تريد عندما حصل أستاذا فيزياء فيها على جائزة نوبل هذه السنة، وأشادت الجامعة بتلك النتيجة التي تضيف إليها جائزة ثالثة من نوبل لأربعة شخصيات. لقد مكثت في تلك الجامعة ست سنوات أعرف تقريبا كل مبنى فيها، ولكني لم أعرف يوما من هو رئيسها أو حتى عميد الكلية التي أدرس بها، بل ولا حتى رئيس القسم الذي درست فيه، وأذكر أن مشرفي أصبح رئيسا للقسم ما يزيد عن سنة دون أن يخبرني أو أعرف ذلك إلا في ورشة عمل أدارها في القسم مع كوني أجتمع معه تقريبا كل أسبوع مرة. مبان الجامعة قديمة، ولكنها في حالة ممتازة تتكيف معها الأحوال وليس العكس، والأمور فيها تحسب بدقة متناهية مع مرونة كبيرة في التعامل، وكنت خلال أسبوع أستطيع أن أجلب كتابا من أي دولة في العالم مقابل مبلغ رمزي للبريد ونحوه عن طريق المكتبة المركزية، وكان في كلية الآداب وحدها أعداد كبيرة جدا من أجهزة الكمبيوترات في أماكن مختلفة ومجانية عدا في الطباعة. وبقدر ما يعرف عن المدرسة الإنجليزية في الحرص وعدم الصرف المبالغ فيه والدقة في النظام إلا أن المعامل كثيرة وبعضها قديم يحافظ عليه ويستخدم في التعليم والتدريب والتطوير. عندما وصلتني رسالة بريد جامعة مانشستر عن فوز أستاذيها بجائزة نوبل وسيرتهما وإنجازهما العلمي المشترك دار في مخيلتي تلك الأهداف التي أطلقتها الجامعة في رؤيتها وتحققت وفق ذلك ما يشير إلى عمق الرؤية ووضوح الأهداف وكفاءة من عمل لذلك. جامعات تفخر بعلمائها وأساتذتها وأستاذاتها وبتركيزها على الإنتاج الذي هي أصلا له نجحت في رفع العلم والفكر فيها. عندما تقاعد تيري إيقيلتون رئيس جمعية النقد الماركسي من جامعة أكسفورد بداية القرن عاد إلى مدينته مانشستر وفتحت الجامعة ذراعيها له، وكان يقيم محاضرة كل أسبوع للدراسات العليا يحضرها من يشاء، وكان هذا تقدير لعالم كبير يرفع من أسهم وقيمة الجامعة لمجرد ورود اسمه فيها. هذه هي الجامعات التي تحقق الإنجازات بجدارة، لا تنشغل بتشييد المباني على حساب أصل وجودها، وتقدر قيمة الأعراف الأكاديمية، ولا تعيش في تخبط إستراتيجي فردي، وتقدر قيمة العطاء العلمي دون اعتبار للون ولا لجنسية، فصاحبا نوبل في الفيزياء قدما الجامعة من هولندا في 2004 وأحدهما لا يحمل الجنسية البريطانية. رجائي للعقلاء الباقين أن نحاول نشر ثقافة أن المباني وتشييدها وإطلاق مصطلح الحرم الجامعي وصرف مئات الملايين على الشكليات لا يعني شيئاً إذا لم تكن القيمة العلمية وجودتها والأعراف الأكاديمية هي الأساس وراء ذلك.