* يكاد الإجماع ان ينعقد على أن أبرز أسباب نجاح وهيمنة الثقافة الأميركية على كل ثقافات العالم؛ أنها لم تقدم نفسها كنمط ثقافي مجرد، بل كأسلوب حياةٍ بالغ المتعة والجاذبية.. فبينما كان العالم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي يعج بالايدولوجيا الجوفاء، وتتناحر في فضاءاته النظريات الاقتصادية والسياسية الواعدة بالمساواة والعدل والرفاهية، كان الفيلم الأميركي -وهو أحد أهم أيقونات تلك الثقافة الماتعة- يدغدغ غرائز وحاجات بقية شعوب العالم حين ينقل لهم صوراً غاية في اللذة للحياة داخل الجنة الرأسمالية الأمريكية!.. أنهار من (الكولا) والبيرة المثلجة، وتلال من شطائر (الهمبرجر) اللذيذة، التي تقدمها حسناوات مثيرات يتراقصن بملابسهن الضيقة والقصيرة على إيقاعات أغاني البوب!.. حياةٌ لا يحدها شيء، ومتعٌ تستظل بحماية القانون!.. إنها ثقافة بيع المتعة التي حجبت بل وأسقطت ما عداها من ثقافات، بعد ان روّج لها مشاهير الرياضة والسينما والأغنية، فكسبوا من ورائها الملايين؛ وأكسبوها هالة من القدسية والنفاذ؛ وصلت في بعض المجتمعات حداً حلت معه كبديلٍ عن الدين والأسرة والمجتمع.. وأولها بالطبع المجتمع الأميركي. * وإذا كانت الرأسمالية المتوحشة -بحسب تعبير (ناعومي كلاين) صاحبة الكتاب الشهير (No Logo) أو (لا للماركات)– قد حولت معظم الشركات العالمية من شركات مصنعة، إلى شركات تتسابق في تسويق علاماتها التجارية حتى تصبح جزءاً من ثقافة الناس حول العالم.. فإن الخطورة الأعظم – من وجهة نظر خاصة – تأتي من نجاح ذات المافيا في إعادة تشكيل الشخصية الإنسانية، كي تتواءم مع تلك الثقافة، من خلال ترسيخها للنزعة الاستهلاكية، إما بالضغط على الغرائز.. أو بتحويل الموسيقى، الأفلام، الطعام، الملابس، الجنس والحياة المنفتحة، من مجرد طقوس ثقافية محلية، إلى سلعة عالمية تٌبشّر مشتريها بالانضمام -ولو عن بعد- إلى الحياة الأكثر متعةً وانفتاحاً على سطح الأرض! .. ولو أمعنت النظر في اللاهثين خلف العلامات والماركات، ومعظم مرتادي المطاعم الأميركية الشهيرة لوجدت أن معظمهم في حقيقة الأمر لا يشتري منتجاً بقدر ما يشتري صورةً ذهنية، وطقوساً ثقافية يعلن من خلالها انضمامه إلى الثقافة التي أوهمت العالم كله أنها تعيش حياة ما بعد الحداثة !. * اللافت أيضا ان ثقافة المتعة الأمريكية أضحت من القوة بمكان يجعلها قادرة على فرض نفسها حتى على اشد خصومها ومعارضيها السابقين.. فقبل أسابيع قليلة نقلت وسائل الإعلام أن (أوباما) ونظيره الروسي (ميدفيدف) تناولا وجبة (همبرجر) في أحد مطاعم ضاحية آرلنغتون.. والطريف انه في الوقت الذي طلب أوباما (همبرجر) مع الشاي المثلّج، فان (مدفيديف) اختار همبرجر مع عبوة من المشروب الأميركي الأشهر (الكولا)!.. قبل ان يتوجه الاثنان إلى مركز التكنولوجيا الأمريكي في كاليفورنيا، حيث أطلق (ميدفيدف) مدونته الأولى على الانترنت، كما قام بتوجيه أول رسالة «تويتر» تقول: «مرحباً جميعاً، أنا الآن على تويتر»!. * اعتقد ان المسألة تتلخص في مقولة الرئيس (روزفلت) أن العقول العظيمة تهتم بالأفكار.. بينما تهتم العقول المتوسطة بالأحداث.. أما العقول الصغيرة فتهتم بالأشخاص.. فقد نجح الأمريكان في بناء إمبراطوريتهم العملاقة بعد ان اهتموا بالأفكار.. وبعد أن اشغلوا العالم بالأشخاص والأحداث!!.. وستبقى أميركا الإمبراطورية التي لن تغيب عنها الشمس طالما بقي معظم شعوب العالم وقادتهم مشغولين بأخبار نجوم أميركا الكبار، وغارقين حتى آذانهم في أنهار (الكولا) الأميركية الباردة!. [email protected]