ظل السعي دؤوبًا وحثيثًا في جميع الأوساط للقضاء على ظاهرة الشعوبية والقبلية والمناطقية، وتحجيم خطابها بوصفه خطابًا نازعًا محو التفتيت.. وعلى المستوى الثقافي برزت للسطح العديد من الكتابات والمؤلفات الهادفة إلى تجاوز هذه الظاهرة، ووقف مدها الذي يجد الفرصة في بعض السوانح ليطل على السطح بصورة من الصور معيدًا ما دأب الجميع على تجاوزه.. ليجد ذلك الاستنكار من قبل الوسط الثقافي والفكري والأدبي. ولعل فشو هذه الظاهرة في فترة من الفترات دفع بالناقد الدكتور عبدالله الغذامي لإصدار كتابه “القبيلة والقبائلية” والذي تتبع فيه البروز القوي للعرقيات والطائفيات والمذهبيات ومثلها القبائلية، من واقع أنها عودة للهويات الأصولية بصيغ عديدة في مقابل تراجع معان سامية مثل الوحدة والحرية.. وإن كان الغذامي في كتابه قد أشار إلى كونية هذه الظاهرة، بالإشارة إلى أن العرقيات انتفضت ما بعد الحداثية في أوروبا “لتصنع تاريخًا حديثًا في التطهير العرقي كما في البلقان، وفي الانفصالية السياسية والتقسيمات الطائفية كما في إيرلندا، وفي التمترس الثقافي كما في قانون (صون العلمانية) في فرنسا” وفي ظهور المحافظين الجدد في أمريكا الذين حققوا عودة للأصولية النسقية بأخطر صورها”.. لئن كان الغذامي قد أشار إلى ذلك في أوروبا فإن الحال لم يكن بأقل مما هو عليه في العالم العربي من عودة للأصوليات الطائفية والعرقية والقبائلية في أكثر من بلد عربي.. وهو ما تستثن منه المملكة في وسطها الثقافي متمظهرًا ذلك في بعض الخطابات الجانحة نحو تأصيل القبلية في المشهد الثقافي إما عن طريق الخطاب الإبداعي أو من خلال المناصب الإدارية بخلق نوع من التوازن والإرضاء “القبلي” باختيار العناصر الأكثر تمركزًا في المناطق بغض النظر عن قدرتها على الإيفاء بمتطلبات الوظائف الإدارية التي انتخب لها، كما هو حاصل في بعض مجالس إدارات الأندية الأدبية، وبعض المطالبات من المثقفين بالاتهام بأدب ومنجز أبناء المنطقة، وكأنما كل منطقة من المناطق أصبحت منططقة “مقفولة” لأبناء المنطقة، ناسيًا أن الوطن للجميع دون استثناء مناطقي.. هذه الصورة وجدت النقد والتفنيد من قبل عدد من الأدباء والمثقفين، مشيرين إلى أسباب فشوها، والطرق الكفيلة بتحجيم مدها في سياق هذا التحقيق... خطأ الأدب الشعبي الأكاديمي في جامعة الملك خالد وعضو مجلس إدارة نادي أبها الأدبي عبدالرحمن بن حسن المحسني استهل مناقشة هذه القضية بقوله: الثقافة فعل مغاير، والمثقف هو طارد بطبعه للأفكار الاجتماعية التي تتعارض مع فطرة التميز السوية، ولذا نجد المثقّف الأول محمّد صلّى الله عليه وسلّم الذي أدبه ربه، ينأى عن تلك التمايزات التي تجعل الأفضلية تنسب إلى العرق “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى”. ويتابع المحسني حديثه مضيفًا: معلوم أن الناس في الجزيرة العربية عمومًا -وشخصي أحدهم- أصحاب انتماءات قبلية، ولا بأس بالاعتزاز بها لأنها فطرة إنسانية؛ لكن يجب أن تبقى في تلك الدائرة دون أن تؤثر على القرار الثقافي؛ فالظاهرة الشعوبية والقبلية ظاهرة عربية قديمة، وأحسب أن الذي أجج هذه الظاهرة في حياتنا المعاصرة هو الأدب الشعبي الذي يركز بحدة على الانتماءات القبلية، ومن أسف أن بعضه قد سرى إلى الجانب الثقافي، بل إن بعض الاختيار لبعض المناصب يقتضي تصنيفات قبلية ترضي طموح المجتمع حتى ولو كانت على حساب الفعل الثقافي نفسه، مما أحدث ثغرات لا تخفى في تكوين بعض مجالس الإدارة في الأندية الأدبية على سبيل المثال، علمًا بأن الثقافة والمثقف يجب أن يكون موجّهًا ومصحّحًا، حتى ولو اقتضى الأمر أن يكون مصادمًا لقرارات المجتمع الخاطئة، وسنبقى في إطار تلك القيود حتى نستطيع أن نتفلت منها لنعطي التميز لمن يستحقه. ويختم المحسني بقوله: القبلية معوق كبير للتقدم، والأمم التي تجاوزت تلك القبلية هي التي استطاعت أن تتطور، حيث يستطيع الأفضل، والأفضل فقط أن يصل إلى المكان الذي يستحقه دون أي اعتبارات أخرى. نظرة غير عقلانية ويقف الدكتور صالح زيّاد أستاذ الأدب بجامعة الملك سعود في الرصيف الآخر من هذه الظاهرة، منكرًا لها، وداعيًا إلى اجتثاثها، ويتجلى ذلك في قوله: إن النظرة القبَلِيَّة للثقافة سواء من خلال الأفكار أم من خلال الأشخاص هي نظرة شُلَلِيَّة وتعصبية وغير عقلانية. فالكفاءة والجدارة والقدرة على الإقناع والإدهاش، من دون اللعب على العواطف التقليدية في التحزب والاصطفاف، هي المحك. والمثقف الجدير بالتقدير هو مثل الإنتاج الأدبي والفكري الجدير بالإعجاب يجاوز الدائرة الضيقة للانتماء والصُّحْبة إلى الدائرة الواسعة الدائرة الوطنية والإنسانية. اللعب على عواطف الانتماء القبلي وما يشبهه هي علامة ضعف ثقافي؛ فلن تنجح قصيدة شاعر أو رواية روائي أو لوحة فنان تشكيلي بسبب وقوف جماعته وراءها أو توجهه في ما يبدع إليهم. ويؤكد الدكتور زيّاد فشو هذه الظاهرة في المجتمع الثقافي في خاتمة حديثه قائلًا: هناك -من غير شك- حزبية وقبلية وشللية وإقليمية أو مناطقية في ثقافتنا المحلية والعربية، وهي انعكاس لعقلنا الثقافي الذي لم يبرح بعد التقليدية، وما زال زاهدًا في توسيع دائرة وعيه وتأثره وتأثيره في مدى أبعد. ضد الحلول الموائمة وقريبًا مما ذهب إليه الدكتور صالح زيّاد يرى الشاعر محسن السهيمي أنه لا اختلاف بين المتعاطين للشأن الثقافي على أن الثقافة لا هوية لها ولا تعترف بمفاهيم تؤطرها وتضيق فضاءاتها. ماضيًا من ثمّ إلى القول: إن (الزجَّ) بالقبيلة في الشأن الثقافي أمر غير مقبول ممن يتلبّس بلبوس الثقافة الزاهي الداعي لرقي الفكر والسمو على النعرات، ومن وجهة نظري فإن (الإبداع) هو الذي يفرض نفسه على الشأن الثقافي وليس الاسم ولا المنصب ولا القبيلة ولا العلاقات الخاصة؛ لأننا حين نتجاهل الإبداع ونركن للأمور الشكلية؛ فإننا بذلك نكون قد جنينا على الثقافة وصيرناها سلعة رخيصة، وهذا مؤشر خطير على انحسار الإبداع ونضوب روافده. مضيفًا: أما عن كيفية توظيف القبيلة في الثقافة فأنا أعجب ممن ينتمي للثقافة ويحمل في الوقت نفسه شعار الانتصار للقبيلة على هامته ولا يستطيع الفكاك منه فمثل هذا لا يمكن أن يسهم في الشأن الثقافي، لذا أرى ألا نُشغل أنفسنا في إيجاد الحلول للمواءمة بين القبيلة والثقافة، فإما أن نأتي متجردين للثقافة وحدها وإلا فمضارب وخيام القبيلة تسع كل مستمسك بها. تفعيل دور المواطنة الدكتورة عائشة الحكمي ترى أن المثقف نتاج تكوينه وأثر البيئة فيه، مما يجعل من أثر القبيلة واضحًا بصورة ما عليه، ويبرز رأيها في سياق قولها: إن المثقف إنسان تضافرت على وجوده وتكوينه المعرفي عالمه المحيط بما في ذلك القبيلة، لا سيما جيل المخضرمين والجيل الثاني والثالث أيضًا، ومن الصعوبة محو بصمة زمن وأمكنة وأنظمة، لكن يختلف عن غيره أنه يتوقع منه النظر إلى الشأن العام بنظرة أكثر اتساعًا وأكثر تحييدًا لكل ما من شأنه يولّد اختلاف الرؤى أو توسيع نطاق الذات في الوقت، الذي ينظر فيه للمثقف أنه حامل لواء الإصلاح والاعتدال في الفكر والسلوك منشغل بالهم العام كقدوة للأجيال القادمة بصورة تمتد من دوره الطبيعي في الحياة. وتواصل الحكمي حديثها قائلة: نحن في زمن أصبحت القبيلة بكل أنظمتها وصمة عار تطارد من يحاول حتى لو كان بغير إرادته التثاقف مع معطياتها، وكأن الموروث أصبح من السلوكيات المنبوذة، والبحث في هذا الأمر -كما أرى- قضية من الصعوبة النجاح فيها، مثلًا إذا استطعنا التخلّص من أساليب الواسطة نستطيع التخلص من هيمنة القبيلة.. فالمسألة تحتاج إلى زمن حتى تتلاشى فيها السلبيات التي نعني، ولكي يصبح المثقف أكثر تفاعلًا مع مجتمعه خاصة إذا كان متعدد الأطياف والمذاهب والاتجاهات عليه أن يستظل بظلال الوطن فقط، يتحسس في منطلاقاته وقضاياه الشعور بالوطن والمواطنة فإذا اندمج في هذه الروح الكلية يتسامى عن العنصرية والتعصب لفئة معينة إذا استوعب المثقف حالة الانتماء للوطن بجميع فئاته سيكون غير محتاج إلى تقية القبيلة إذ سيشعر بذوبان الخلافات والاختلافات عند منطقة المشاركة والتعاون في بنائه وتنميته والحفاظ على العيش المشترك فيه. مختتمة بقولها: إذًا فلا بد من التفكير جليًا في تفعيل دور المواطنة بالتحديد في ذوات المثقفين لأنها هي الخيار الأمثل والنظرة الثاقبة للرؤية الاستشرافية للمستقبل الذي سيكون من خلالهم بصفتهم يشاركون في صياغة الفكر والمستقبل. أمراض مقحمة ويتفق عضو مجلس إدارة نادي الباحة الأدبي عبدالرحمن سابي مع ما ذهبت إليه الدكتورة عائشة الحكمي في وجود هذه الظاهرة وأنها تلقي بظلالها على مجمل الفعل الثقافي نشاطًا وإدارة، مضيفًا على ذلك بقوله: إن النفي المطلق لوجود هذه الممارسات يعد جناية لا يقبلها الضمير الثقافي البصير، كحالة مرضية يصاب بها البعيدون جدًّا عن بشرية الثقافة وتساميها كفعل مشترك يسهم في بناء ورقي الوعي الإنساني، والوصول بها لحالة من المعرفة تكون خادمة للمحيطين بها، عاملة بكل صورها على اعتبار إنسانيته المثقف، والتعامل وفق هذه المنهجية السليمة البعيدة عن السادية الثقافية، المبتلى بها المدعي للثقافة، كونه يملك القرار لمؤسسة ثقافية أيًّا كانت طبيعتها تقدم من خلالها المثاقفة، وهي حال لا تمت بصلة للمثقف الحقيقي الذي يترفع عن سياسة الإقصاء لعذر هو أقبح من ذنب. ويضيف سابي: والخيانة أكثر ألمًا وأشد قبحًا حين تمارس تلك الأمراض مقحمة الشأن القبلي في إعطاء المعايير لقبول أو رفض معرفة ما مضادة في العرق أو الهوية، فمتى كانت القبيلة مالكة حق الإقطاع المعرفي في التثاقف البشري؟! وما كان ولن يكون الانتماء الصادق للقبيلة بهذه السلبية والسوداوية خاصة حين يملك المضاد من المعرفة ما يؤهله للممارسة أو يتفوق على الضيق القبلي الذي يشكل هذا الواهم الهزيل، وسيبقى للقبيلة كإرث نأوي إليه بياضها وإن حاول البعض الزج بها لحاجات في أنفس الكثير من (يعقوب). مبررات منطقية مشاركة عضو التأليف والنشر بنادي الباحة الأدبي عبدالرحمن حمياني العمري ابتدرها بتقديم إيضاح للتوزيع القبلي في منطقة الباحة قائلًا: توجد في منطقة الباحة ثلاث قبائل هي: غامد وزهران وبني عمر (بني عمر العلي وبني عمر الأشاعيب) والتاريخ يقول هذا، وهي معروفة عند غامد وزهران والقبائل المجاورة، وبني عمر أبناء عمومة لغامد وزهران، وسكنها الأساس محافظة المخواة، وهناك خمس قرى (عمرية) وعلى رأسها قرية حزنة تقع في السراة، وتحوّلت مع المجاورة لقبيلة غامد وهذا ما تناقلته الأجيال إلى وقتنا الحاضر، وهذا معروف في الأنساب والقبائل حيث تذوب بعض الفروع من قبيلة في قبيلة أخرى بسبب المجاورة أو إلى غيرها من الأسباب، وقبيلة بني عمر هي الثالثة في منطقة الباحة، أما من ناحية الثقافة فأرى أن العاملين في النادي تم اختيارهم حسب العطاء الثقافي والكفاءة الثقافية. ولا يخفى عليَّ في هذا المقام أن صاحب القرار لديه مبررات منطقية يضعها في الاعتبار، إضافة إلى الكفاءة الثقافية فيمن يرشحه لعضوية النادي الأدبي أو يقبل عضويته، كما أن الواقع يدلل على ما أقول، فالنادي الأدبي بالباحة كان من ضمن أعضائه السابقين الأديب الشاعر بلغيث عبدالله العمري -رحمه الله- وقد وعد الأستاذ حسن في أمسية ثقافية بالمخواة بأن يقيم للأستاذ بلغيث -رحمه الله- أمسية يذكر فيها مآثره، وأنا أيضًا (عمري) وأعمل ضمن إحدى اللجان الحالية في النادي مع زميلي الأستاذ ناصر بن محمد العمري والذي يعمل في لجنة أخرى. ويتابع العمري حديثه بالقول: أما بالنسبة لعدم وجود أحد العمريين في عضوية النادي الأدبي بالباحة؛ فقد أجد مبررًا معقولًا له وهو بعد المسافة بين المخواة ومدينة الباحة، وأيضًا هجرة بعض المثقفين والأدباء إلى خارج محافظة المخواة، وإلا ففي العمريين من الأدباء والمثقفين ما يكفي أن يشكل ناديًا أدبيًّا بالمخواة، وقد وعدنا خيرًا بهذا، وأذكر على سبيل المثال الشاعر الفقيه الدكتور سعيد سعد العمري عميد كلية أصول الفقه بأبها، والأستاذ الشاعر والمذيع المتألق محمد بن حسين العمري، فقبيلة بني عمر لا تزال تواصل العطاء الثقافي والتنموي جنبًا إلى جنب مع أبناء عمومتهم غامد وزهران وذلك لرفعة هذا الوطن وتقدمه.