تَحدَّثتُ في مَقالين سَابقين عن عَيْنَين تُرهق المُجتمع، وتُخلخل مَفاصله، مِن خلال بَذل الجُهد في أمورٍ؛ هي مِن كماليّات الأشياء، أو مِن سُنن الأحياء.. وهَا أنا بصَدَد العَزاء، وما أدرَاكم مَا العَزاء.. يا أيَّتها الحيَّات والأحيَاء..؟! وأجمَل مَا يُمكن قَوله في أمر العَزاء، أنَّه لا يَختلف عَن العُرس، أو لِنَقُل بأنَّ العُرس هو مَن يَأخذ شَكل العَزاء، بمَعنى أنَّ العُرس والعَزاء لا فَرق بينهما، إلَّا مِن خلال التّحيّة، ففي العُرس يُقال: (تَفضَّلوا.. بَارك الله في السَّبب الذي جَمعنا)، أمَّا في العَزاء فيُقال: (تَفضَّلوا.. رَحم الله ميّتكم)..! ومِن طَريف ما يُروى في استبدَاد العَادة على الإنسان، وتَحكُّمها في تَصرّفاتهِ ومُفرداتهِ، أنَّ رَجُلاً أحضر «وَليمة طَعام» لأهلِ ميّت، ولأنَّ مِن عَادته التَّرحيب بضيوفهِ، فقَد قَال في مُناسبة العَزاء: (تَفضَّلوا.. بَارك الله في السَّبب الذي جَمعنا)، ومَا عَلِمَ أنَّ السَّبب هو مَوت ذَلكم القَريب، ولو لم تَكن العَادة مُسيطرة، والرُّوتين مُبرمجا، لما قَال ذَلكم الدَّاعي هذه الجُملة..! والعَزاء في جذره الدِّيني، وفي أصله الإسلامي، يأخذ مَسارين بين القبول والرَّفض، فمَثلاً بَعض المَدارس في الفقه الحَنبلي تَرى بدعيّة العَزاء، سَواء كَان في صورته الحجازيّة أو النَّجديّة، بمَعنى أنَّه مِِن البدعة أن يُفتح البَاب ثَلاثة أيَّام لاستقبال المُعزِّين، والصَّحيح - لديهم - أن يَكون العَزاء الشَّرعي في المَقبرة، أو أن يُوَاجه المُعزِّي المُعزَّى «مُصادفةً» - في الطَّريق - فيُعزِّيه، هَذا ما تَقوله بَعض المَدارس الفقهيّة، لكن لو تَجاوزنا الأمر، وقَبلنا العَزاء كظَاهرة، فهو يَبدو نَوعاً مِِن التَّفاخُر، وأوّله شراء مِئات الصَّفحات - في الصُّحف - لِنَقْل التَّعازي، خَاصَّة إذا كان الميّت وَجيهاً، أو أميراً أو كَبيراً، ولله در وَرثة الشيخ «سليمان العليان»، عندما اعتذروا عن نَشر أية تَعزية لوَالدهم، واستَعَاضوا عن ذلك بفَتح حساب، تُوضع فيه قيمة التَّعازي، ليُستفاد مِنها في وجوه الخير..! كما أنَّ العَزاء بشكلهِ الحالي - أيضاً - يَحمل مَظهراً مِن مَظاهر التَّفاخُر، مِن حيثُ تَعدُّد الوَلائم والإسراف فيها، والمُعاناة التي يَتحمّلها ذوو الميّت، أو الميّتة، مِن خلال استقبال المُعزِّين لسَاعاتٍ طَويلة، لمُدَّة ثَلاثة أيَّام متواصلة..! هذا في الجَانب الرِّجَالي، أمَّا في الجَانب النِّسَائي، فقَد حَدَّثتني إحداهن قَائلة: تَصوّر يا «أحمد» أنَّ هناك مكياجاً خَاصًّا بالعَزاء؛ يَحمل اللون «اللحمي» ونَظراً لأنَّ المَرأة تَجلس في العَزاء - طيلة الوَقت - بعَباءتها، فقد أصبح مَكاناً لعَرضِ العَبايات، والتَّسابُق في زَخرفتها..! حَسناً.. مَاذا بَقي..؟! بَقي القَول: إنَّ العَيْنَات الثَّلاث بثقلها الاجتماعي والمَالي، وإرهاقها الجَسدي، هي مِن إفرَازَات حقبة الطَّفرة، وتَدفُّق المَال في أيدي البدو..! وقد جَاء الزَّمان، واستوجب المَكان أن نُعيد النَّظر في هذه العَيْنَات الثَّلاث؛ ونأخذها بالحُسبان، وعَفا الله عمَّا مَضى، ومَا كَان قَد كَان..! يا قَوم.. لقَد قَال عُلماء التَّجربة: ( إنَّ الاعترَاف بالخَطأ خَيرٌ مِن التَّمادي فيه ).. فإيَّاكم إيَّاكم أن تَتمَادوا في اللهَاث خَلف العَيْنَات الثَّلاث.. والله الهَادي إلى سَواء السَّبيل..!. [email protected]