شُغلنا زمناً ليس باليسير بالحداثة الأدبية، وثار الجدل حولها فاختلفنا عليها ولم نتفق حتى هذه اللحظة، بعضنا رأى في كل تجديد ابتداعا بالمفهوم الديني لا اللغوي، وعلى الطرف الآخر منا وقف فريق يرى أن من لم يقبل ما نقله إلينا من حداثة ترجمها عن لغات العرب ولم يبدعها، فهو متخلف بعيد عن واقع العصر، واليوم بعد عقود ثلاثة مضت أهدرناها في ما لا جدوى له، لم يعد لحداثة الأدب في ساحتنا وجود، إلا من خلال معارك تثور بين الحين والآخر، يستحضر من يجترحوها مثيلاتها عندما تحزب الطرفان، وقادا معارك لم تنته، ولم يجد الناس لها ثمرة قد يستفيدون منها، وإذا كان الغرب قد مارس الحداثة منذ بدء النهضة الأوروبية، وحتى تطور حضارته هذا التطور الهائل، الذي نحن اليوم نعيش على ثمراته المبدعة، ومع هذا فنحن دوما نتهمه بشتى التهم، ويعيش بعضنا على أمل زوال حضارته فإننا نظنه إن اصغى إلينا فألغى ما نظنه نقائص له سيعترف لنا بفضل لم نقدمه له قط، ولم يحسن به أصلا، فالحداثة التي طورت الحياة في الغرب لم نعرفها بعد، وحتما لم يفكر فيها سوى العدد القليل ممن أوتوا نظرة متأنية وواعية إلى واقع الحياة الممارسة في الغرب لا المتخيلة، انظر إلى سائر مرافق الحياة في وطننا وما تعانيه، تدرك أننا ظننا المظاهر وحدها ستؤدي إلى التطور، ولم ندرك أن التطور فعل مبدع في كل الاتجاهات فالتعليم الذي هو القطاع القائد في كل ما ينهض بالأمة من الوسائل، ظلت برامجه ومناهجه ومقرراته، الزمن الطويل تراوح مكانها، بصورة تقليدية لا تنتمي إلى زماننا الذي نعيش فيه، ويغلب عليها النظري من العلوم، فخطة الدراسة تعطي كماً هائلاً من المعلومات النظرية، والتي في الغالب لا تجد لها في الحياة الممارسة تطبيقا، وعلى هذا فلا وسيلة لتحصيلها سوى الحفظ وإن لم يصاحبه فهم، لهذا فأنت تجد في مجتمعنا من يردد العبارات كالببغاء، ولو سألته أين الموقع الذي يمكنك فيه أن تطبق معرفتك فيه لم يستطع جوابا، وخطة العلوم التقنية والتطبيقية ظلت زمناً طويلاً بصورة تقليدية تجاوزها العالم منذ زمن ليس باليسير، فغاب عن تعليمنا كل ما يصنع المبدع في شتى العلوم الا ما ندر، وهذا النادر لم يصنعه تعليمنا، وانما صاغه عالم آخر، وفي النظم المؤثرة في استقرار المجتمع ورقي الحياة لم يكن لنا نصيب في ان نبدعها، وظللنا في غالب الاحيان ندير مجتمعنا بما كان يدير به اجدادنا مجتعهم، خاصة في العصور المتأخرة، التي غلب عليها الجمود والتخلف، ولم نستطع حتى اليوم ان نطور نظمنا بالشكل الذي تلائم موادها العصر الذي نعيش فيه، فلم نستعر من سبقنا الى تطوير تلك النظم نظماً تلائم أوضاعنا، ولم نبدع لنا نظماً تلائم هذه الاوضاع، ولا نزال وللأسف في كثير من هذه النظم عالة على ما قرره الاجداد في زمن غير زماننا وفي اوضاع لم يعد لها اليوم وجود، أو عالة على نظم استعرناها من دول هي اكثر منا تخلفاً، ولم نستطع ان نجعل لتطور الانظمة في بلادنا منهجا، ولولا خطة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -أمد الله في عمره ورعاه- لتطوير أهم مرفقين هما التعليم والقضاء لفقدنا الامل في انتقالنا الى طور أرقى في ممارسة الحياة، ولا يزال مجتمعنا ينتظر بفارغ الصبر ثمار هذا التطوير، فكل ما ركد عبر الزمن من أوضاعنا منوط اصلاحه بهذا التطوير في أهم مجالين يقودان التغيير، وهما التعليم والقضاء، ويسبق ذلك تطوير لازم للمؤسسات الاستشارية، التي يوكل اليها وضع النظم ودراستها لاقرارها، بدءاً من مؤسسة الخبراء في مجلس الوزراء وانتهاء بمجلس الشورى، ومروراً بهيئة كبار العلماء كمؤسسة استشارية، وان الاختيار الموفق للعاملين في هذه المؤسسات وفق معايير الكفاءة، والتي يمكن تطبيقها بدقة هو الطريق الاجدى لتطويرها، وسواء اكان التعيين للاعضاء هو السبيل للانتقاء أم الانتخاب، او المراوحة بينهما، فالاصل لا يصل الى هذه المؤسسات الا من هو جدير بأن يعتمد عليه في اجتراح نظم وتشريعات ترتقي ببلادنا الى مصاف الدول الحديثة المحققة للتقدم، اننا ان لم نجد الشجاعة للتغيير باساليب علمية فلن نستطيع اصلاح كثير من اوضاعنا التي تزداد تردياً، والتي لم يعد يخفى ترديها على أحد منا سواء في الجانب الرسمي أو الشعبي، فعملية الإصلاح لا شك شاقة وطويلة المدى، ولكن اذا بدأنا فيها بجدية آتت ثمارها تباعاً، ولعلنا تلاحظنا شيئاً من هذا ونحن نعالج اوضاعنا التي اكتشفنا اختلالها في شتى المجالات، خاصة منها ما تعلق ببناء الوطن ورقي أهله، في السياسة والاقتصاد والإدارة، وهو ما نتوق إليه جميعنا، فقد آن الأوان لنلحق بركب الامم التي تجد ساعية لتحقيق اكبر قدر من التقدم، ولا ينقصنا شيء لننطلق في هذا الطريق، فلدينا العقول والثروة، والرغبة في تجاوز هذا الجمود الذي رأن على مجتمعنا زمناً طويلاً، وآن لنا استحضار حداثة حقيقية تنهض بنا وليست جدلية، فهل نفعل هو ما ارجو والله ولي التوفيق.