لم يكن هواة تكميم الأفواه في مجتمعنا يلجأون إلى هذه الدعوى، التي أصبحنا نسمعها تتردد كل يوم، ونقرأها في أدبيات بعض المنتسبين إلى العلم الديني، بأن المعترض على أفكارهم غير متخصص في هذا العلم، وكأن العلم بالدين مقصور على فئة من الخلق منحت الحق في الاختصاص به دون غيرهم، وهم يعلمون أن التخصص في هذا العلم سهل ميسور لمن أراد، وله طريقان: أولهما: وهو طريق السابقين أن يأخذ العلم اللاحق عن السابق، يثني ركبتيه في مجالس العلم، يحصل فيها ما يجهله منه، ويمنحه شيخه الذي يعلمه إجازة بما تعلمه من العلوم الدينية على يديه، وكان يتعدد للطالب المشايخ الذين يجيزونه في مختلف العلوم، ويشهدون له بتحصليه لهذا العلم أو ذاك، بل ويرشحونه لتدريسها وتعليمها، هكذا الحال في ما مضى، وسلف علماء الأمة كلهم حصلوا علومهم بهذا الطريق إلا ما ندر، ومعلوم ان تحصيل العلم بهذه الطريقة تراجع عبر الزمان، حتى وجدنا في عصورنا المتأخرة من لازم عالماً واحداً أو عالمين، واعتبر تحصيله العلم على يده أو يديهما كافيا، وقد يكون أو يكونا متخصصين في علم أو علمين من العلوم الدينية، وكثر هذا في أيامنا هذه، وفي بلادنا وجدنا ممن ينسبون أنفسهم للعلم من قرأ مختصرات قليلة على يد مثله ممن درس في هذه المختصرات على غيره في علمي الفقه والتوحيد، فإذا به المجتهد الذي لا يشق له غبار في سائر العلوم، وهذه الطرق كان طالب العلم في الماضي يستكملها بالعكوف على مصاد العلم ينهل منها ويوسع بها مداركه، حتى يشهد له بالعلم أهله، ويعترف له بالكفاية في ما اختار التخص في أحد فروع العلم الديني، واليوم نجد بين المتخصصين في علوم أخرى وفي حرف مختلفة من يدعون العلم الديني، ويذكرون شيوخاً لهم، قد لا يكون الواحد منهم قد جلس اليهم إلا مرات قليلة، ولم يتلق فيها عنهم علما، ونجد وللاسف بين المتخصصين في العم الديني من يدافع عنهم، ويعتبرهم العلماء لمجرد أنهم يؤيدون له اجتهادا خاطئا، منهم المتخصص في الكهرباء والزراعة والمحاسبة، بل ومنهم الحرفي النجار أو السباك وغيرهما من أهل الحرف الدنيا، وهاهم الزاعمون بأنهم التيار السلفي في مصر جلهم من هؤلاء، وعندنا هنا في الوطن من هؤلاء مشاغبون معروفون بسيماهم، وبما تردده ألسنتهم وتجري به أقلامهم من السباب والشتائم لكل من خالفهم أو خالف قولا لمن اعلنوا أنهم أشياخهم، وثانيهما: طريق الآخرين وهو الدراسة الأكاديمية عبر المدارس النظامية ابتداء من المدرسة الثانوية ووصولاً إلى الكليات الجامعية، ثم بعدها الدرجات العلمية (الماجستير والدكتوراة)، ونعلم ان الكليات الدينية انما تعلم مساحات من العلوم، ولا يستكمل طالب علم فيها علماً، ولعله ان أراد ان يتم ما بدأه فيها حضر رسالة علمية للحصول على درجة الماجستير فيم الدكتوراة، ونعلم ان هذه الرسائل في جامعاتنا قد تناقش مسألة علمية قد تتضاءل حتى تصبح مثلاً عن مشروع الوضوء صفته وشروطه فرائضه وسننه، أو المسح على الخفين، أو احكام المبتدأة في الحيض وهكذا، ومن يراجع قوائم الحاصلين على هذه الدرجات في جامعاتنا سيفاجأ بعناوين المواضيع التي حصلوا بها على هذه الدرجات العلمية، معلوم ما هو المقدار المتحصل من العلم عن هذا الطريق، ولعل من لم يطور نفسه فيوالي الاطلاع على مصادر العلم يؤول أمره إلى جهل عظيم، نجده اليوم عند بعض حملة الدرجات العلمية العليا، ولعل ما يصدر اليوم عن بعضهم من فتاوى شاذة، وآراء غير سوية شاهد على ما نقول، لذا فنحن في عصرنا هذا خاصة في وطننا نفتقد العالم المجتهد، الذي يشهد له علماء عصره في سائر عالمنا الإسلامي ببلوغه هذه المرتبة، لهذا أرى ان الدعوى بان هناك متخصصين في العلم الديني، لا يصح ان يتناوله سواهم بالبحث هو لون خرافة لا أكثر، فهذا العلم متاح بالطريقين لمن شاء تحصيله، ومن حصله صح له ان يخوض غمار البحث فيه، والغريب اليوم ان دعوى التجهيل التي يرمي بها البعض مخالفيهم، تنصرف في كثير من الأحيان إلى من حصل العلم بذات الطريق الذي حصل المدعي التجهيل به ما ادعاه من علم، والعالم الحق الذي حصل العلم بالطريقتين، عن طريق اخذ العلم عن العلماء الافذاذ في حلقات الدرس سواء في الحرمين الشريفين أو في سائر المساجد، وجثا على ركبتيه بين ايديهم، ثم حصل العلم في المدارس النظامية والكليات الدينية، وواصل للحصول على الدرجات العليا حتى حصلها، ثم أمضى العمر كله بين مصادر هذا العلم الأصلية، وعلم هذا العلم في معاهده وكلياته، من امثالي من الذين تخرجوا في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، حينما لم يكن في البلاد تعليم جامعي سواها، مثل هذا يدرك انه بشر يخطئ ويصيب مهما بلغ قدر علمه، وقد ينبهه أحياناً أدنى الناس علماً لامر قد غفل عنه من هذا العلم، فلا تأخذه العزة بالاثم ليرد الحق لأنه جاء من غير متخصص لهذا فهو يردد مقولة الامام الشافعي رحمه الله: ان قولي صواب يحتمل الخطا، ويلزمه العلم الذي يحمله ان يعود عن الخطأ إذا تبينه في قوله، بل هو أكثر الناس سعادة بذلك، ويعتبر قول غيره خطأ يحتمل الصواب، فان أدرك بعد ذلك صوابه رجع إليه وتخلى عن قوله، فالحق مبتغاه، ولا يمنح نفسه الحق في ان يقول ما شاء ويرد كل من يقول غيره بدعوى انه المتخصص وسواه غير متخصص، وان كان الأعلم منه والاتقى، ان زماننا ازدحمت فيه الدعاوى حتى لم يعد يتبين الحق من الباطل، ولو اصغى بعضنا إلى بعض، ولم يسئ احد منا الظن بالاخر، وتأكد من علمه بالتعرف عليه، ولم يكتف فقط بما يتردد عنه من اشاعات، يحترف نشرها أشباح يتحركون على صفحات الإنترنت، ويتداخلون عبر الفضائيات بأسماء مستعارة، فهؤلاء انما يبذلون جهداً لفرقة بين المسلمين في وطنهم الواحد لمصالح لهم ذاتية، لعلها في جلها مادية، وهم من نكتشفهم بين الحين والآخر وراء إشاعة ترمي هنا وهناك للإساءة إلى المخلصين من أبناء هذا الوطن، ونكتشف انهم وراء مواقع على شبكة الانترنت مثيرة للشبهات، فهل كف هؤلاء عن محاولة تكميم الافواه عبر هذه الدعاوى الباطلة، هو ما نرجو والله ولي التوفيق.