روى لي محدثي مندهشاً ، وهو شخصية مرموقة تنتمي الى إحدى أكبر العائلات في مجتمع عربي محافظ، كيف أن جارته الإنجليزية- حيث كان يدرس في بلادها لنيل درجة الدكتوراه - كانت لا تزور أمها إلا كل بضعة اشهر، مكتفية بالاطمئنان عليها عبر الهاتف، رغم أنهما يسكنان في حي واحد، قلت له: وما وجه الدهشة أن ترى ذلك في لندن وهو موجود لدينا الآن في مجتمعات عربية محافظة؟!.. هم هناك في أوروبا والدول المتقدمة، استعدوا جيدا لذلك عبر ما أسميه «مؤسسات الحنان المدفوع» أما نحن فيحدث هذا عندنا في غياب المؤسسات التي تمنح آباءنا الحنان وتوفر لأطفالنا الطمأنينة.. هناك لديهم دور للمسنين، وجليسات للأطفال والعجائز، وبوسع من يشعرون بالوحدة أن يجدوا من يؤانسهم بأجر عبر الهاتف، كما يستطيع من لا يجدون صدرا حنونا يبكون فوقه أن يبكوا على راحتهم فوق صدر تقنية اتصالات تسمح لهم بذلك مقابل أجر معروف سلفاً.. بإختصار هناك مؤسسات لكل شيء فماذا عندنا نحن؟! بدا محدثي كمن فوجىء بأن مجتمعاتنا لم تستعد لمواجهة استحقاقات عصر ما بعد الصناعة، وبأننا مازلنا نعول على بعض المزايا المجانية التي يمكن ان توفرها لنا قيم الشهامة لدى الآخرين، أو علاقاتنا بالجيران والمعارف، تماما كما نعول على حسن أخلاق الموظف بدلا من التعويل على سلامة هيكل المؤسسة التي ينتمي اليها، وعلى ضمير المسؤول بدلا من التعويل على ضمير المؤسسة. مفاجأة محدثي المرموق هى ذاتها مفاجأة مجتمعاتنا كلها، فالناس التي اعتادت استشعار الأمان في كنف الأسرة والجيران والشارع والحي، مازالت تتوقع أن تجد الأمان لدى كل هؤلاء، والمجتمعات التي نشأت على ذلك لم توفر آليات بديلة للأمان الأسري والاجتماعي، ولا هى سعت لامتلاك آليات للشفافية تضمن سلامة الضمير العام ، وتحمي المجتمع من الفساد والفاسدين،فالجميع ما زال يعول على ضمير غائب وأخلاق لا تحضر الا في المناسبات. ما الذي حدث؟! لماذا بدا الأمر كما لو أن خللا قيمياً حاداً قد وقع لمجتمعاتنا؟ أين ذهبت الشهامة والنخوة؟ لماذا انخفضت بنسبة كبيرة أعداد من هم على استعداد للتضحية من أجل الآخرين؟ لماذا تزايدت جرائم الرشوة والفساد وإساءة استغلال النفوذ؟ لماذا حضرت المستشفيات وغابت الرعاية الصحية، ولماذا زاد عدد المدارس وتراجع مستوى خريجيها، ولماذا تنهار جسور اقيمت قبل سنوات تحت وطأة أمطار أو سيول؟ ولماذا تسقط عمارات فوق رؤوس ساكنيها في مجتمعات عربية عرفت بناء الأهرامات قبل آلاف السنين؟! ولماذا ينبغي دفع مقابل خفي «رشوة» لموظف من أجل أن يقوم بعمله، فيما يتقاضى راتبه كموظف عام؟! الإجابة عند البسطاء مثل سائق تاكسي صحبني من المطار في إحدى البلدان العربية هى أن الضمائر ماتت، وأن الأخلاق اندثرت وأنه لا حل ولا مخرج بغير إيقاظ الضمير، واستعادة الأخلاق.. هكذا يقول البسطاء، لكن أحدا منهم لا يملك إجابة واضحة عن أسباب حصول الضمير على بطاقة سفر بلا عودة، وهل يكمن الخلل في برامج التعليم أم في وسائل الإعلام أم في القوانين والأنظمة أم أن العولمة هى السبب، أم أنه ثقب الأوزون فعل فعله وترك أثره على رؤوس وقلوب الناس، أم أنه رماد بركان ايسلندا، او تسونامي اندونيسيا، أو ربما انفلونزا الخنازير والطيور والكلاب.........؟! لا أظن أن ايا مما سبق يتحمل مسؤولية الضمير الغائب أو الأخلاق المندثرة، فالأولون لم تكن لديهم مثل مدارسنا وجامعاتنا ولا كان عندهم في بيوتهم كهرباء ولا تليفزيون ملون يحمل الصور والأخبار من كافة ارجاء الأرض على مدار الساعة، وكان مستوى التعليم متدنياً،، ومع ذلك فقد كانت الأخلاق أحسن حالاً والضمائر لم تكن تعرف الاجازات الطويلة، لماذا؟ في ظني أن أخلاقنا وضمائرنا كانت نتاج عصر ما قبل الصناعة، وأننا حين دخلنا عصر الصناعة بوعي أو عن غير قصد، لم نحمل معنا الى هذا العصر آليات التكيف الاجتماعي والأخلاقي معه، فالضمائر التي كنا نحملها في صدورنا قبل عصر الصناعة ، أصبحت لها مؤسسات تصونها وتحميها وتحمينا، مؤسسات الضمير العام في الدولة الحديثة هى القضاء والبرلمان والحكومة، ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وهيئات حقوق الانسان، وجمعيات حماية المستهلك، وأجهزة مراقبة الغذاء والدواء، وأجهزة مراقبة جودة التعليم وسلامته، وأجهزة مراقبة جودة كافة السلع والخدمات، ومؤسسات، وأجهزة مكافحة الاحتكار ، ومكافحة الإغراق، واسواق المال التي تحظى بشفافية عالية، تراقب أداءها وتسهر عليها هيئات مختصة لضمان سلامة الأداء والتزامه بمعايير أخلاقية وقانونية صارمة. كل هذه المؤسسات هى أعضاء -مثل سائر أعضاء جسم الإنسان- داخل جسد واحد هو «مؤسسة الضمير»، ولكي تعمل تلك المؤسسات بكفاءة عالية فإنها تحتاج الى قانون صارم لا يسمح بتجاوز عضو على صلاحيات واختصاصات عضو آخر، وهو ما يسمى (في أوروبا والدول المتقدمة) بمبدأ الفصل بين السلطات، وحتى تكون تلك السلطات مستقلة حقا وصدقا لا ينبغي أن تنشىء إحداها الأخرى، ولا أن يكون لها أن تلغي وجودها أو تقرر حدود وظيفتها.. فمن يفعل ذلك هو دستور أو قانون وضعه ممثلون حقيقيون للشعب و ارتضاه كافة أفراد المجتمع والتزموا جميعا باحترام قواعده باعتبار أن ذلك هو الضمانة الحقيقية والوحيدة لاستمرار عمل سائر الجسد بكفاءة واقتدار دون عجز أو شلل أو فساد أو شطط. مؤسسة الضمير أو «ضمير المؤسسة» هو الحل لكل أمراض العصر، فمن خلاله تعود المدرسة لدورها كمؤسسة للتربية والتعليم، وتعود المستشفيات لدورها كمكان يقدم الرعاية الصحية للمواطن، ويسترد الشارع اعتباره كطريق تحكم السير فيه اصول وقواعد لا يجوز الالتفاف عليها.. ضمير المؤسسة أو مؤسسة الضمير، قد لا توفر الحنان الذي افتقده محدثي في لندن، لكنها حتما توفر الأمان الذي لا تقوم في غيابه حضارة ولا تحدث بدونه نهضة.