أتابع إلقاء الأضواء على جوانب من جبهة الانحطاط في تديننا، وفي مجتمعاتنا الإسلامية، باعتبار أن هذه الجبهة عمومًا لا تحظى بما تتطلبه. من العناية والجهد والجهاد، الدعوي والتربوي والإصلاحي، ساعيًا وراجيًا بذلك تصحيح هذا الوضع، وتغيير أولوياتنا، من جبهة التفسخ والانحلال، إلى جبهة التخلف والانحطاط. ومن جوانب الانحطاط وأسبابه في حياتنا: بعض الظواهر السلبية؛ التي يمكن إدراجها تحت اسم: (التدين المغشوش). ولعل الصفة الأساسية الجامعة لما أعنيه بالتدين المغشوش، أو الغش في التدين، هي صفة الاعتناء بالظاهر مع إهمال الباطن، أو هي المبالغة والإفراط فيما يظهر وينتشر، مع الإهمال والتفريط فيما يخفى ويستتر. بمعنى أن المتدين يعتني- في تدينه- بتحسين الأعمال والصفات الظاهرة والمرئية والملموسة، ويحرص على الالتزام بأحكام الشرع وآدابه فيها، بينما لا يبالي بعكسها مما لا يراه الناس، ولا يَظهر للعيان. فكل عمل أو سلوك ظاهره أفضل من باطنه، وباطنه أقل من ظاهره، ففيه غشّ، وهو عمل مغشوش. وكل ما يخفيه صاحبه، من تطفيف أو نقص أو رداءة في أعماله وواجباته، فهو غش. فمثلا، محافظة المصلين على الصلاة في أوقاتها وبهيئاتها وسننها وجماعاتها، نجد له من الاهتمام والعناية أضعاف العناية والاهتمام بباطن الصلاة، أي بحالة القلب، وتعظيم الرب، ونباهة العقل، وخشوع النفس، فتجد كثيرًا من المصلين في حالة تحفز وحرص بالغ، ورصد دائم لمواقيت الصلاة، مع المسارعة إلى الصفوف الأولى، والمواظبة على صلاة الفجر، مع تمسك ظاهر بسنن الوضوء، وتسوية الصفوف... وكل هذا جيّد ومحمود، ولكن الفرائض الباطنية للصلاة، والثمار الخلقية والسلوكية لها، قلّما يؤبه لها، وقلما يُعتنَى بها، مع أنها أنفس وأهم بكثير؛ فهذه صلاة مغشوشة، وتدين مغشوش. وتجد عامة المتدينين مهمومين مشغولين بمدى محافظة المرأة والبنت - القريبة منهم والبعيدة- على حجابها ولباسها وتسترها، ومدى قربها أو بعدها من مظاهر السفور والتبرج وما جاورهما، حتى إن ذلك ليعدُّ هو المعيار الحاسم لتدينها وتقواها وصلاحها، وقد يُتخذ معيارًا حتى لتدين أبيها وأخيها وزوجها... ولكن قلما يأبه أحد لما هي عليه، في أحوال إيمانها وتفقهها وصلاتها وصيامها وأخلاقها، ومن تضييعها لأوقاتها، ومن سوء علاقاتها مع أقاربها وبنات جنسها. وقد نرى صنفًا من المتدينين- من الرجال والنساء- في بعض علاقاتهم يتمتعون بقدر كبير من اللطافة واللياقة والأدب والإحسان... لا يسبون ولا يشتمون، ولا يتكبرون ولا يعتدون... ولكنهم في داخل بيوتهم ومع أهلهم وأقاربهم، على خلاف ذلك كله، وقد تجد متدينين من هذا الصنف لا يتحرجون في ممارسة كثير من الانتهاكات والإساءات الخلقية المنحطة والمخزية، مع خَدَمهم وعمالهم وزبنائهم وشركائهم. التدين المغشوش على هذا النحو، يسهِّل التعايش و"التطبيع" مع ثقافة الغش، وممارسة الغش، في كافة المجالات والأعمال. ومن هنا نجد الغش والتطفيف مسلكًا متبعًا في الدراسة والتدريس والامتحانات، على جميع المستويات، ونجد الغش في الصناعات والتجارات، صغيرها وكبيرها، ونجد الغش في كافة الحرف والوظائف والمسؤوليات، وقد نجد الغش حتى عند أئمة المساجد، والقيمين عليها، وربما أيضًا عند المكلفين بالأعمال الدعوية والوعظية والعلمية. وهكذا نجد الغش يعشش ويتعايش مع الصلاة والصيام، ومع الدراسة والدعوة، ومع الذِّكْر والحج .. وحتى مع قوله (صلى الله عليه وسلم): "من غشَّ فليس منا"!!. • فقيه ومفكر إسلامي.