ترى ما هى تركيبة حليب السباع الذي شربه الإسرائيليون عشية وصول جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي أوباما، والتي مكنتهم من تحدي الهدف المعلن للزيارة وهو تدشين مفاوضات غير مباشرة بين سلطة أبو مازن وحكومة نتانياهو، من أين أتوا بكل هذه الشجاعة التي جاوزت حدود الوقاحة وهم يعلنون قبل وليمة عشاء أقاموها لبايدن اعتزامهم البدء في بناء ألف وستمائة وحدة إستيطانية اسرائيلية في القدسالشرقيةالمحتلة؟! في تقديري أن الإهانة التي تعرض لها جو بايدن في اسرائيل كانت مقصودة ومخططاً لها بعناية، وأن اعتذار نتانياهو بأنه لم يكن يعلم وأن مساعديه قد أساءوا اختيار توقيت الاعلان عن المشروع الاستيطاني في القدس، لا يعدو أن يكون جزءا من خطة الاستخفاف بنائب الرئيس الأمريكي. وفي ظني كذلك أن من استكثروا على نتانياهو أن يفعل ما فعله متكئين على مقولة العلاقة العضوية بين اسرائيل والولاياتالمتحدة وتطابق المصالح بينهما، قد أخطأوا تشخيص الحالة ورصد المشهد، فالعلاقة ليست عضوية كما نجح الاسرائيليون في ايهامنا بذلك، والمصالح لا يمكن أن تكون متطابقة، مهما كان مستوى التفاهم والتناغم والتحالف بين البلدين. أولاً.. لماذا أقول أن الإهانة كانت مقصودة بفحواها وتوقيتهاومكانها؟.. لأن إسرائيل التي تضيق بما تعتبره تردد ادارة أوباما في تبني سياسة أكثر حزماً تجاه طهران ، تريد أن تلوح بقدرتها على العمل منفردة وإن أدى ذلك إلى إثارة المتاعب لواشنطن في المنطقة العربية، وكأن لسان حال نتانياهو يقول لواشنطن:لن نبالي بمصالحكم مادمتم لا تبالون بمخاوفنا. واشنطن استوعبت رسالة نتانياهو من أن اسرائيل لا تبالي وهى بصدد استثمار ما تعتقد أنه ظرف مواتٍ لإعادة هيكلة المنطقة قبل أي مفاوضات محتملة مع الفلسطينيين أو سواهم. ثانيا.. لماذ أقول أن ثمة خطأ عربياً كلاسيكياً في التسليم بمقولة روج لها الاسرائيليون فحواها أن علاقة واشنطن وتل ابيب عضوية، وأن مصالح البلدين متطابقة دون هامش ولو ضئيل لاختلاف؟ أظن وبعض الظن إثم أن العرب استسهلوا التسليم باعتبار اسرائيل طفلة أمريكا المدللة، لأن ذلك ببساطة يعفيهم أمام شعوبهم من الذهاب الى القتال أو حتى التلويح به على طاولة مفاوضات. (لن أخبط رأسي في الجبل وأقول أنني ذاهب لقتال أمريكا) هكذا قال سياسي عربي راحل قبل أعوام، وهكذا بدا الموقف العربي منطقيا فنحن لن نذهب بداهة الى الحرب قبل أن نمتلك القدرة على هزيمة الولاياتالمتحدة، وهكذا فالاستسلام لمقولة العلاقة الخاصة جدا بين أمريكا واسرائيل بدا أسهل الخيارات العربية، وأرخص المكاسب الاسرائيلية حيث لم يتطلب الأمر من ساسة اسرائيل سوى الترويج لفكرة العلاقة الخاصة،ولم يتطلب الأمر من العرب سوى المسارعة الى تصديق المقولة والتسليم بها، لترتاح الضمائروتقر العيون. العلاقة بين امريكا واسرائيل إذن ليست عضوية والمصالح ليست متطابقة، والدليل أن الاسرائيليين حين ظنوا أن بوسعهم التصرف بمفردهم ولو ضد ارادة واشنطن فعلوا على مسمع ومرأى من العالم، حتى بدا إعلان خططهم لبدء اقامة وحدات استيطانية في القدسالمحتلة أشبه ما يكون بزوجة غامرت ليس بطلب الطلاق بل باتخاذ قرار “الخلع”. هكذا ظن الاسرائيليون أنهم بلغوا نقطة خلاف مع واشنطن وانهم باتوا في وضع يتيح لهم اتخاذ القرار بغض النظر عن رضا واشنطن أو سخطها. ولكن عند أي نقطة اختلفت مصالح واشنطن وتل ابيب بشكل بين قاد الى المشهد الراهن؟! تحاول دراسة أعدها جورج فريدمان الباحث بمركز سراتفور جلوبال انتليجنس، أن تقدم إجابة عن هذا السؤال، وجدت فيها ما قد يحمل القارىء العربي الى قراءة جديدة للمشهد الراهن ونظرة سريعة على خلفيات لم تكن منظورة. تقول الدراسة أن الولاياتالمتحدة تحاول طوال أكثر من ثلاثة عقود الحفاظ على ثلاثة توازنات بإقليم الشرق الأوسط ،هى توازن قوى بين الهند وباكستان، يحول بأقل جهد من واشنطن دون هيمنة أي منهما على شبه القارة الهندية، ثم توازن قوى بين العراق وايران يحول دون سيطرة أي منهما على منطقة الخليج، وأخيرا توازن قوى بين اسرائيل والعرب، يسهم بدوره في لجم الصراعات الاقليمية في المنطقة العربية. ويقتضي الحفاظ على هذه التوازنات الثلاثة جهدا أمريكيا كبيرا، لكن التوازنات تظل أقل كلفة بكثير مما يمكن أن تتحمله واشنطن في حال تعرض أي منها للخلل أو للانهيار، وهو ما حدث بعد سقوط بغداد في قبضة القوات الأمريكية، فقد انهار قطب التوازن مع ايران وبدا وكأن واشنطن خاضت معركة الملالي ضد صدام حسين وسلمت طهران مفاتيح العراق، بكل ما يلقيه ذلك من أعباء ثقيلة على الولاياتالمتحدة، لحماية مصالحها وأصدقائها. ولم يقف الأمر عند سقوط العراق قطب التوازن الاول مع ايران، وانما تبدو باكستان التي تخوض الى جانب واشنطن حربا شرسة ضد تنظيم القاعدة، وضد خصوم أشداء للحكم في الداخل، وكأنها مرشحة للتراجع عن لعبة التوازن مع الهند التي تبدو وكأنها استوعبت الظرف الاقليمي وراحت تمضي باتجاه بناء قوة يتجاوز تأثيرها حدود الاقليمي وتطلع الى التأثير في خارطة العلاقات الدولية برمتها. بسبب الخوف على التوازن الوحيد شبه القائم الآن بين العرب واسرائيل، بدت واشنطن قلقة من سلوك حكومة نتانياهو التي توشك أن تعصف بآخر توازنات واشنطن في اقليم الشرق الاوسط ولهذا كان الغضب الأمريكي من خطط الاستيطان الاسرائيلية أسرع من غضب العرب وربما أعلى صوتاً ليس لأن واشنطن تدافع عن قدس فلسطينية وانما لأنها تدافع عن مصالح أمريكية توشك رعونة نتانياهو أن تعرضها لمخاطر حقيقية.. قصة التوازنات لا تصلح وحدها سببا لغضب واشنطن من اسرائيل، فثمة أسباب أخرى قد تدفع واشنطن الى التلويح بالطلاق، فيما يهددها الاسرائيليون ب“الخلع”.. ومع ذلك فخلفيات حكاية الطلاق الامريكي والخلع الاسرائيلي تستحق ان نخصص لها المقال القادم حيث لا تسمح المساحة بالمزيد من التفصيل.