كان الاختراق العثماني في حصار فيينا الثاني شبيه بالاختراق الذي قام به العرب قديما مع تجاوز جبال البيرنيه، بعد السيطرة على شبه الجزيرة الايبرية، عندما تحطم الامتداد العربي بدوره في المدى الأقصى الذي حاول تجاوزه، ولكن الفرق من جانب آخر كان كبيراً للغاية. وهو المسار الذي نريد دفع الأفكار باتجاهه مع هذه المقالة، فالعثمانيون كانوا يصارعون أوضاعا مختلفة للغاية، في القرن السادس عشر والسابع عشر عن الأوضاع التي كان العرب يتفوقون فيها في القرن الثامن والتاسع الهجريين. بدأ حصار فيينا في الرابع عشر من تموز يوليو من عام 1683 م، وكان القيصر ليوبولد الأول النمساوي قد فر أمام الحملة العثمانية الرهيبة التي ضمت قرابة ربع مليون جندي مزودين بأفضل أسلحة ذلك العصر من المدافع والبنادق ذات الحشوة الواحدة، على ما جاء في الوثائق السلطانية من أيام السلطان محمد الرابع، حيث نقرأ صوراً من مجريات المعركة، في هدم أطراف من سور البلدة، أو ضرب مجموعة من الأعداء (مما عجل بروح 40 - 50 من هؤلاء الأوغاد إلى جهنم !!). فشلت الحملة واندحر الجيش العرمرم، وأعدم الوزير الأعظم في بلغراد عاصمة الصرب الحالية في 25 ديسمبر من نفس العام 1683 م، في أعياد الميلاد المسيحية، وكان البابا إينوسنس الحادي عشر (INNOZENS XI) خلف التحالف المقدس الجديد، حيث اتحدت القوة النمساوية مع قوة من سكسونيا، وقوة من بافاريا (سكسونيا وبافاريا مقاطعتان في جمهورية ألمانيا الاتحادية الحالية) بالإضافة إلى الجيش البولوني الذي ذكرناه سابقاً تحت إمرة الملك البولوني يوحنا الثالث سوبيسكي، بل وأكثر من هذا حيث ختم السلطان العثماني محمد خان الرابع فترة حكمه الأخيرة التي دامت أكثر من أربعين عاماً بهزيمة أشد هولاً في السهل المجري في معركة (موها كز في 12 آب أغسطس عام 1687 م) ذلك السهل الذي كان الجنود الانكشارية قد خلدوا فيه نصرهم الكبير قبل 160 عاما. ولكن ليست الذكريات ولا الأرض تمنح نصراً أو هزيمة ، وإنما تغيير ما بالنفوس!! (سنة الله التي قد خلت في عباده). حيث تم عزل الخليفة بعد ذلك ليموت في عام 1687م عن عمر يبلغ 53 عاماً قهرا ً وغماً ، وليعين من بعده أخوه السلطان (سليمان خان الثاني) . صعود أوربا الفكري كانت هزيمة القوة العظمى العثمانية ذات نكبة مزدوجة فهي عجلت بالدولة العثمانية باتجاه التآكل والتحلل والتفسخ إلى جثة الميت آخر الأمر ليعلن أتاتورك الموت في نعوة عامة تاريخية. كما أعلنها جورباتشوف عن إمبراطورية كارل ماركس وستالين ولينين. وفي نفس العام الذي مات فيه السلطان محمد خان الرابع عام 1687م كان (اسحق نيوتن) يكتب فيه كتابه الرائع (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) هل هذا له أدنى دلالة في إلقاء ضوء على الأحداث التاريخية وتفسير ما حدث؟ لم يكن كتاب (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) سوى القفزة النوعية في تاريخ العقل الإنساني عندما يبدأ الدخول في مرحلة انعطافية جديدة في تفسير العالم الذي يحيط به، فالكتاب كان إذاً المدخل الجديد لفهم عالم جديد. وبالطبع لم يتفطن المسلمون الأتراك فضلاً عن المسلمين التابعين لهم ذلك أن الأتراك العثمانيين كانوا يمثلون الطليعة والقيادة والخلافة للأمة الإسلامية آنذاك، لهذا التحول النوعي الذي يجري في العالم، من هنا كان قولنا أن التفوق العربي في شبه الجزيرة الايبرية كان تفوقاً حضارياً، وكان اقتحام العثمانيين عسكرياً بالدرجة الأولى. ما الذي كان يحدث آنذاك في أوربا؟ كان اسحق نيوتن يضع الموشور الزجاجي أمام الضوء ليرى تحلل أطياف الألوان السبعة للضوء الأبيض، كان يقوم بتطوير علم (التكامل والتفاضل)، توصل إلى قانون (الجاذبية) بين عامي 1664 و1666 م، كان يضع كتابه عن علم (البصريات) ويفسر الضوء على أنه جسيمات، وفي عام 1687م التي ذكرناها كان يقوم بتطبيق قانون الجاذبية على حركة الأجرام السماوية وسقوط الأجسام على الأرض ثم ليطور علم الديناميكا (بما في ذلك القوانين الثلاثة في الديناميكا المعروفة التي تبدأ بقانون قصور المادة وتنتهي بقانون كل فعل له رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه) ثم ليطور بعدها قوانين ميكانيكا السوائل. الذهول الخفي عن تبدل أحوال الأمم هذا هو الفرق بين الحقل الذي كان تعيشه أوربا في ذلك الوقت، والمناخ الذي كان يعيشه العالم الإسلامي آنذاك، كان هناك شيء جديد يتفتح في أوربا ونور عقلي يتألق، بينما كان الظلام بدأ في الإطباق على العالم الإسلامي على النحو المأساوي الذي انتبه إليه ابن خلدون في المقدمة حينما كتب يقول أولاً في الصفحة ( 28) عن التحولات الرهيبة التي تحدث ولا يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة : (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده. • كاتب ومفكر سوري.