جاء كتاب « البازان وسيل البغدادية « للأستاذ يحيى باجنيد – الذي صدر مؤخراً عن دار الحضارة – مواكباً لأحداث السيول التي غمرت وهدمت بعض بيوت جدة .. لكن سيل البغدادية الذي يتحدث عنه ( الباجنيد ) كان رحيماً بالناس وبالدُور التي كانت مبنية من ( الطين ) رغم أن السيل كان يأتي ( طازة ) من الأودية للبحر , لم يغدر بأحد , وكنا نستقبله بالفرحة , (وباللساتك) التي كانت تمخر بنا عبابه في رحلة مجانية من (كيلو ثلاثة – حي الثغر حالياً) وحتى البغدادية مروراً بالكندرة . في كتابه ( البازان وسيل البغدادية ) وظَف يحيى باجنيد ملكاته الفنية وموهبته التي صقلها بالدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا في تنفيذ وإخراج الكتاب بنفس القدرة المعروفة عنه في فن الكتابة , فأظهر لنا عملاً بديعاً راقياً أعاد إلى الذاكرة صوراً قديمة ذات أثر تحنُ إليه أجيال السبعينات والثمانينات التي عاشت تلك الفترة , فالبازان الذي كان موجوداً في كل حي , والذي يغذي البيوت بالماء , كان أثره أبلغ من محطة تحلية المياه بكل عدتها وعتادها , كما إن حمار (فتيني) – أعزكم الله – الذي خصص له يحيى باجنيد في كتابه مساحة واسعة كان أكثر فاعلية من ( صهاريج ) المياه الضخمة التي عجزت أن تعالج مشكلة إيصال المياه إلى أهالي جدة . و في الوقت الذي كان لابد لصاحب الحاجة للماء من أن يشمر عن ثيابه ليدخل في طوابير انتظار تمتد إلى قضاء جزء كبير من ليل أو نهار , فإن ( فتيني ) لم يرهق زبائنه , فلديه سجل دماغي يرتب له جداول بمواعيد ( الردود ) وأسماء كافة المتعاملين معه. يقول ( الباجنيد ) في سرد له تحت عنوان : ( يالآخر.. أنا وراك ) « إن أمور السقايين في البازان لا تحلها إلا عصا ( المأمور ) فلا يسعهم بعد ذلك إلا أن يفشوا غلهم في الحمير .. فيرتفع النهيق» .. بينما كانت أمور السقايين في مياه التحلية عصية على الحل , ولا يمكن أن تحلها ( العصا ) , وإن كانت هناك (عصا) فلن تستقبلها سوى رؤوس طالبي الماء وضحايا العطش , فليس كل الناس ( طراوة ) تلك الشخصية التي تحدث عنها الكاتب والذي كان يقتاد الحمير مع أصحابها ويفرغ براميلها في بيته بالذراع مجاناً . ( فالطروات ) لدينا الذين تعجز عن تعدادهم أو كشفهم ( السجلات ) تصلهم المياه عبر مواسير بمقاسات أكبر من (شِيب) البازان. قال لي مرة الكاتب ( محمود تراوري ) صاحب العبارة الرشيقة والأسلوب الراقي : « بأن الذين كتبوا عن ( الحارة ) كُثر , لكن أفضلهم من اندمج مع أهل الحارة وتعايش معهم , وكان صانع أحداث في وسطهم « .. ولذلك نجح الثنائي (دياب وباجنيد) في تصويرهم لأحيائهم , كما نجحا في تصوير بعض الشخصيات التي كانت جزءاً من تاريخ تلك الأحياء تصويراً بليغاً لدرجة يشعر القارئ معها بأنه يعيش المكان والزمان نفسه , وتربطه علاقة بتلك الشخصيات . لا أريد أن أعلق على كل ما جاء في كتاب « البازان وسيل البغدادية « لكيلا (أحرقه) .. لكن هناك عناوين جميلة يحملها الكتاب تستهويني لقراءتها ، ف (جرة عبدالقادر) و (موقعة الدوم) و (والله وسمنتي يا مبروكة) جميعها عناوين جديرة بالقراءة وتحمل مضامين لا يدرك تفسيراتها سوى الذين عاصروا ذلك التاريخ ونهلوا من تلك الثقافة ويستهويهم أسلوب (يحيى باجنيد) الساخر المتفرد , والذي يعالج بعض سلبيات المجتمع ويظهرها للسطح .. ويتطلع لإزالتها