كان المسيح عليه السلام يقول «ما نفع الإنسان إذا ربح الدنيا وخسر نفسه !؟» . ولكى تربح نفسك عليك أولا أن تعرفها وتجلو ظلماتها ، فالعقل كما العين لا يرى إلا فى النور .. لعلك تابعت ما كتبت عن البحث عن الذات وفى المقال الأخير عن اللاشعور فلا أضطر لتكرار ما لا حاجة لتكراره . لدينا مصدران يمكن للمرتحل الى عالمه الباطنى الداخلى الإستعانة بهما ، التصوف وعلم نفس الأعماق ، وهما شديدا الإختلاف والمقصد إلا أن موضوعهما واحد ، وكلاهما غير كاف لمد المرتحل بدليل رحلة متكامل ، لكن ما الحيلة ليس لدينا سواهما ، فى كليهما لا معرفة يقينية تنفع الغير ، ففى النهاية كل شئ متوقف على صدق نية الباحث عن الحقيقة المستترة ، وعلى العون الربانى من لدن علام الغيوب . كارل يونج من فتح الباب لدراسات علم نفس الأعماق ، أحد فروع المدرسة التحليلية المؤسسة على فرضية أن الوجود الفردى يستند الى كينونة نفسية غارقة بالكامل فى اللاشعور عدا ذلك الجزء الضئيل الذى يمثله الوعى ، اللاشعور رغم أنه غير محسوس بوسائل الحس العادية إلا أنه موجود ويمارس ضغوطا شديدة مؤثرة على الوعى . ومشكلة الوعى أنه تخلق من الأساس للتعامل مع العالم الخارجى وتكيف مع وظيفته هذه بحيث يصاب بالحيرة ويغرق فى ظلمة تامة إن حاول إكتشاف باطنه النفسى الداخلى ، فهذه ليست وظيفته ، ولهذا السبب بالتحديد ترجع لغزية الأحلام ، فأثناء النوم يخفت الوعى حتى يكاد يتلاشى ، وينسدل الستار بينه وبين عالمه الخارجى الذى اعتاد التعامل معه ، وينفتح الستار عن عالم الداخل حيث يصادف أحداثا ليس من طبيعة عمله التعاطى معها ، ولذلك تبدو له بشكل غير مفهوم يحتاج لتأويل . الأحلام ليست موضوعنا هنا إلا للإيضاح ، موضوعنا المحتويات المحجوبة فى ظلمة اللاشعور . بطريقة التبويب تنتظم النفس ، فهى تشبه مخزنا كبيرا لو ألقيت محتوياته بلا نظام لتشوش واستحال على النفس أداء وظائفها ، لذلك تتوزع المحتويات الى أركان ، فى كل ركن تتجمع المحتويات ذات العلاقة ، بنفس الطريقة التى تنتظم بها الذاكرة ، وما يلج الوعى من الخارج يرتد الى هذا المخزن الكبير ، والوعى ليس طريق الدخول الوحيد اليه ، فمن الجهة المقابلة ينفتح اللاشعور على عوالم وأكوان لا يعلمها إلا الله ، يتسلل عبرها كل القوى غير المرئية الخيّر منها والشرير ، أحد محتويات اللاشعور وأقربها الى الوعى ما أسماه يونج ب (الظل) ، مجرد كتلة من التكتلات النفسية المتخصصة التى تتجمع فيها المحتويات ذات العلاقة ، تتجمع فيه كل الخصال والسمات والنزعات الشخصية السيئة الشريرة التى لا يقوى المرء على الاعتراف بأنها تخصه ، فيزيحها الى ذلك الركن المرفوض غير المرئى اللا- معترف به. يستحيل تقريبا على إنسان أن يعترف بأنه سيء شرير (حتى عتاة المجرمين لا يفعلون) ، ويحاول كل ما بوسعه من ألاعيب وأكروبات نفسية لتجنب هذا الإعتراف . أفاضل الناس هم من يعترفون بمسؤولية جزئية عن مساوئهم ويردون الجانب الأكبر من المسؤولية الى الظروف أو الإضطرار أو الى الآخرين ، هؤلاء فى موقف أفضل من السواد الأعظم لكنهم لازالوا فى قبضة الألاعيب ، الصفوة فقط من أولى العزم هم من يستطيعون رؤية الظل كما هو على حقيقته ، وأنه لا شئ آخر غير أنفسهم ، إن فعلوا فقد أمسكوا بالظل ، وإن أمسكوا به أصبح قابلا للترويض . من الحيل النفسية أيضا اعتبار الظل شيطانا دخيلا يوسوس ، بذلك يقع الإثم على كينونة خارجية تبرئ النفس التى لن تتهم بأكثر من ضعف مقاومتها للإغراء . هذا لا ينفى أن الشياطين تتسلل من الخارج متخفية فى ظلمة اللاشعور ، لكنها لا تفعل ذلك إلا عن طريق التحالف مع الظل ، وطالما بقى الظل حقيقة غير مكتشفة لأنها مرفوضة غير معترف بها فهذا كل ما تحتاجه الشياطين ، والشكر لمضلل نفسه . الظل هو الباب الذى تلج منه الى اكتشاف خفايا وجغرافية النفس إن أمسكت به وسيطرت عليه ، ذلك لأنه أقرب مكونات اللاشعور الى الوعى ، ومدخل طريق رحلة البحث عن الذات ، والذات كينونة الوجود الحقيقة المدثرة تحت طبقات اللاوعى الكثيفة المظلمة لا (الأنا) الأكذوبة صنيعة الظلمات الداخلية وصراعات العالم الخارجى . الظل واحد من عشرات (وربما مئات) مكونات اللاشعور ، حدثنا يونج عن بعضها مثل الأنيما عند الرجل والأنيموس عند المرأة ، هذه المكونات أو المحتويات ذات قدرة على الإسقاط الى الخارج ، أى إسقاط محتوياتها على شخص ما خارجى ، فإذا أسقط الظل محتوياته على شخص تعرفه ستجد نفسك تكرهه بقوة أكبر من أن تبررها سماته الشخصية ، أما الحقيقة فإنك تكره فيه نفسك ! .