نقطة لون واحدة تقودك إلى عالم التشكيلي المصري محمد عبلة.. هي تقنية يستخدمها كثيراً ليورط المتلقي في اللوحة ويجبره على الإنتظار قليلاً أمام العمل لتسير عينه في خط متعرج يقوده إلى عمق اللوحة.. يعتمد عبلة في معرضه “أضواء المدينة” المقام بقاعة الزمالك للفن على نقط لونية كثيمة أساسية في اللوحة ولا يقف دورها على كونها مجرد نقطة ولكنها تكون خط لوني تقود عين المتلقي إلى بقية عناصر اللوحة بهدوء وتدفعه إلى التفسير المتأني بعيدًا عن الحكم المتسرع على الفن التشكيلي واتهامه بالغموض. استمر عبلة في نقل تأثره بالقاهرة وأحساسه بتفاصيلها بعد أن قدم القاهرة بوجهة نظر مختلفة في معرضه السابق “المتاهة”، وإن كان تعامل مع القاهرة من نفس منظور المتاهة برسم لقطات من القاهرة من أماكن مرتفعة مثل جبل المقطم وبرج القاهرة؛ لكنه في “أضواء المدينة” انتقل لمنظر أقل ارتفاعًا ليلقي بنفسه بين أمواج الضوء، ودفعته المغامرة لنقل تأثير أنوار القاهرة المنتشرة في لوحات تشكيلية ليرصد حالات البهجة على مراكب نيلية ومآذن المساجد في رمضان وإعلانات الطرق. فمن خلال 30 لوحة عبر عبلة عن أضواء القاهرة بمساحات مختلفة، وأحب لوحة لديه رسمها لمراكب ترسو على شاطئ النيل وتضاء بألوان صاخبة لتلخص فرحة البسطاء الذين يصنعون بهجة المدينة بلمبات النيون الملونة وأفرع الزينة يلفونها على الأشجار والمباني، انهم يعلنون فرحهم ويكتبون صفحة المرح في مدينة يلفها الكثير من الليل والظلمة.. كما قدم رؤيته الخاصة لشكل المدينة في أوقات ضوئية ولونية مختلفة، مشغولاً بفكرة الرسم ومشتاقًا لها بعفوية، تظهر الخطوط معبرة عن ديناميكية الميادين والنيل والشوارع دون أن تشعر أن هناك عنصرًا مفقودًا داخل اللوحة رغم عدم وجود أشخاص؛ فقط أضواء السيارات العابرة في الشوارع وعلى الكباري والمساجد ومراكب النيل الصاخبة. نهار مستعار حول هذه التجربة يقول عبلة: فكرة المعرض تدور حول الليل وما يحدث فيه من إضاءة تحيله إلى نهار مستعار مثلما تسير في طريق شبه مظلم وتمر بجوارك سيارة تنير الطريق فجاة ثم يعود الظلام تدريجيًّا. مضيفًا: أؤمن بأن الفن مغامرة يبحث فيها الفنان عن إجابات لأسئلة الإبداع، ورغم أني أخرج في كل مرة بمزيد من الأسئلة وقليل من الإجابات إلا أن الضوء في الأفق البعيد يشدني بكل السحر وكل القوة إلى مغامرة جديدة، في هذا المعرض ألقيت بنفسي في ليل المدينة أصارع أمواج الضوء وهي تومض من حولي، فجأة تنير وفجأة تظلم وتتلاشي. وكنت أدرك صعوبة رسم الليل والتعبير عن عالم الأضواء بشكل خاص حيث أن تاريخ الفن هو تاريخ ضوء الشمس ومعظم النظريات تناولت تحليل اللون من منظور عالم النهار، ولكن القاهرة تعشق الضوء فهو ينير وجهها ويرسم معالمها وتبقي بعض الومضات الخجولة تعلن عن بقايا حياة وأخرى تموج بصخب الأضواء المبهرة، الضوء في ليل المدينة يرسم جغرافيا خاصة وعالمًا مختلفًا من الخطوط والأقواس و الدوائر والنقط المضيئة.