1- .. دعوني أبسط لكم المسألة، في النقد الأدبي، التماهي التام مع (أصول) الاتجاه التاريخي الاجتماعي لدراسة النص، يحوله الى مجرد وثيقة اجتماعية تاريخية بعيدا عن أية اهتمامات فنية ولغوية ما، وكذلك الحال في الدراسات النفسية الخالصة التي تتساوى أمام آلياتها النصوص جميعها -أدبية أو غيرها- في غمرة تحويل النص الى حقل تجارب نفسية فحسب .. وتتجاوز تلك النظرة الأحادية النص الأدبي إلى النصوص الفكرية عبر التاريخ ، فالأصولية الماركسية تعتبر قراءة ماركس هي القراءة الوحيدة الصحيحة المطابقة، وما عداها من القراءات انحراف وضلال، والأصولية الوجودية حصرت كل جهودها في تهويمات خيالية عابثة لم تصمد أمام العقل الانساني.. 2- الفكر (الأصولي) في حقيقته ارتهان تقديسي تنزيهي إلى المقولات الأولى، التي ينظر إليها دائما بكونها أصلا لكل معرفة لاحقة. وهو موقف دوغمائي أحادي من الحقيقة، وصاحب هذا الفكر يثبت بفكره عند زمن معين وحدث محدد متعالقا في كل الأحوال مع نص / شخص/ نموذج يتخذه معيارا في النظر والتفسير أو في العمل والممارسة. 3- تنطبق هذه التداعيات الأحادية على الأصولية الدينية التي تقر بنهاية الغايات الدينية في (أصول) تأويلات بشرية يجب مطابقتها في كل الأماكن والأحوال والظروف، وما خالفها يجب رفضه و محاربته بوصفه ضلالا وكفرا وفسوقا، رغم ان الحديث يظل دائما في دائرة الأصول الفقهية المتغيرة (أساسا) بحسب النظرة الكلية الايجابية للمنظومة الدينية في علاقتها بتلبية حاجات الانسان المتغيرة بتغير الشواهد والمواقف، بعيدا عن الأصول الدينية التي لا أظن عاقلا رشيدا يفكر في الخوض في ثوابتها ومقرراتها، كما فهم ذلك مثقفونا بكافة أطيافهم، حتى من الذين يوسمون بالحداثة والليبرالية والعلمانية وما بعد الحداثة وما بعد بعدها. 4- الأصوليات تتفاعل مع الفرد بوصفه ذا هوية مسبقة ومتعالية ومكتملة ارتضت أن يختم على عقلها ووجدانها بتوقيعات الأسلاف، لتكون النتيجة (الاستقالة) من التفكير النقدي الحر، في دوامة الانهماك الدائم بحماية الأصول والسعي المستمر الى التطابق معها واستبعاد كل ما تولده التجارب الحية والمعارف الجديدة و (الأصول) المستجدة من تنوع وثراء، بداعي احتكار المعنى وممارسة الوصاية على الأسماء والتأويلات والنصوص والتيارات الأدبية والثقافية المتنوعة. 5- أفضى ذلك المشهد الى ممارسة احتكار المعرفة في العلوم الانسانية، وهذا كان من الممكن قبوله حين كانت الأمية شائعة والمصادر غير متوفرة (على عكس ما نشاهده في وقتنا الحاضر حيث يمكن ان نجد مكتبة اسلامية كاملة في قرص ممغنط واحد) في الوقت الذي استمات العلماء -وقتها- في الإغراق في تعقيدات وتفصيلات أدت الى عزوف كثير من المسلمين عن الاطلاع عليها من غير مساعدة دائمة، وأسهم شيوع التقليد في غرس هذه الصعوبة في الذهنية الجمعية، وذلك بالتهويل من الصعوبات التي تحول بين المسلم والقراءة المستقلة لنصوصه الدينية وفهمها فهما ممكنا. 6- ألا يجدر بالمتخصصين في (العلوم الاسلامية) ان يسهلوا اطلاع المسلمين على تلك المصادر دون وسائط وتواكل وتقاعس وأن بإمكان الفرد ان يتتلمذ على شرفات معرفية شتى لإغناء معرفته بالآراء المتنوعة، لأن تدعيم تلك المعرفة (الخاصة) هو الذي كرس ثقافة (الفتوى) في كل صغيرة وكبيرة، بغياب مطلق للثقة بعباد الله الذي استخلفهم -سبحانه- جميعا للبحث والاكتشاف والتدبر والتفكير إعمارا للكون وترسيخا لأنوار الخالق في النفس الانسانية. 7- حيازة العلم مستحيلة، كما هو الفكر الأصولي..ليس بإمكان أحد القبض على حقيقة الأمر أو امتلاك المعنى..الممكن -فقط- هو إقامة علاقات نسبية متحركة، مرنة ومفتوحة، متغيرة ومتجددة مع تلك المعارف التي اعتبرها البعض أصولا ثابتة رغم انها تبعد كثيرا عن ثوابت الدين وركائزه الرئيسة (أيمكن أن نعتبر الحديث في قضايانا الأزلية كالاختلاط وكشف وجه المرأة وسماع الموسيقى والتعاطي مع الفنون الجميلة كالمسرح والسينما، والتهنئة ببدايات الأعوام والتسامح مع أهل الكتاب خلال احتفالهم بأعيادهم وأفراحهم أصولا راسخة من أصول الدين لا ينبغي الخوض في اختلافاتها وتجلياتها بأي حال من الأحوال؟) ذلك أن سيرورة الحياة ونوازع العقل تقوم على الاختلاف والتفاوت. ومن هنا فالأصل لا يتجلى الا كنوع والحقيقة لا تعرف الا كإنتاج . الحيازات العلمية والدعوات الأصولية تمارس حجب العقل وبقاءنا في ذمة من يفكر نيابة عنا ويقرر باسمنا دائما دائما، ولذلك فإن هؤلاء (النواب) لا يترددون في استئصال الآخرين الذين يقاربون مثل تلك القضايا السابقة، ورفض تأويلاتهم. 8- هل يمكن أن تفسر لنا هذه المقاربة ذلك الهجوم العنيف على أحد الأجلاء المنتمين لذات الخطاب الديني، وهو رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة الشيخ أحمد الغامدي لأنه قد قال ذات لحظة دينية حرة خالصة بجواز (الاختلاط) من منطلقات شرعية مبررة كثيرة، باعتبار أن رأي الشيخ يجترئ على اقتحام تابوهات محرمة لا ينبغي مقاربتها واقتحامها بأي حال من الأحوال. 9- .. علاقة الأغصان والأوراق (المتنوعة) للأشجار الوارفة بأصولها، هي التي تحدد سموها وإثمارها وجمالها ونفعها.. هل نظل دائما جاثمين حول جذور شجرة واحدة (فقط) متجهة الى الأرض، ونترك التطلع الى الأغصان الوارفة المتعددة المتطلعة الى الآفاق السامية وجذورها المختلفة الأخرى؟..الحقل ليس شجرة واحدة.. بالتأكيد! إلا إذا ارتضينا بحقيقة غياب تلك الحقول في وعينا ووجداننا فحسب! [email protected]