ما بعد التمكين حين ينجز الله وعده، ويرث المؤمنون الأرض بعد تحقيقهم لشروط التمكين الإلهية يظلون يحملون مسئولية الحفاظ على مكتسباتهم في تكوين مجتمع مستعبد لله اختيارا كما هو مستعبد لله اضطرارا ،وذلك ببذل الوسع في الصبر على أوامر الله والصبر على أقداره والصبر عن معاصيه :(وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (42) ويقتضي ذلك إقامة الشرائع والأمر بها والنهي عن مخالفة أمر الله ،وصنعهم هذا هو الوسيلة الصحيحة لاستجلاب نصر الله تعالى حيث يقول سبحانه في سورة الحج: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ(41) وتبدأ معاناتهم من حين ينشأ من داخلهم فئة تحاول التمرد على الوضع القائم المتسم بالوقوف بصرامة ضد الشهوات والشبهات ، وهي محاولات تبدأ ضعيفة في شكل خروجات خاصة عن مألوف المجتمع ثم تتطور إلى خروجات عن قيمه بمختلف مصادرها ، ثم تنمو لتصل إلى محاولات لتسويغ هذه الخروجات وجعلها واقعا ودفع المجتمع إليها دفعا. ويؤكد القرآن الكريم على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمبدأ عام ينبغي أن يتضافر المجتمع على تحقيقه لأن شيوع المنكر وعلو كلمة أهله مؤذن بعقابهم. (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لقمان17 (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)(79)سورة المائدة . وتتوالى الأيام ويبعد المجتمع عن تقدير الأسس الإيمانية التي من أجلها وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من أمن وتمكين ، ويضعف عند الصلحاء الصبر على الإنكار واستصلاح الخلق ، فتتكرر السنة الكونية وتبدأ النذر الربانية على هيئة عقاب جزئي أو تخويف كلي كما جاء في سورة النحل (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ(45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (46) فمكر السيئات مطلقا دون رجوع وإنابة ومع استمراء وإشاعة كله مغضب للرب عز وجل منذر بتحقيق وعيده ، ولهذا ينهى الله سبحانه عباده المؤمنين عن الأمن من مكره سبحانه وعاجل عقوبته ويشر إلى أن الأمن من مكر الله سمة الخاسرين قال سبحانه في سورة الأعراف (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ)(100) والأمم في مثل هذه المواقف يقل فيها من يقدر هذه النذر حق قدرها فيتعامل معها بالصبر عليها واحتساب الأجر من الله على ما وقع له جراءها وراجع على الله تعالى منيب إليه في أعقابها ، والأمة التي تسلك هذا السبيل في التعامل مع هذه النذر والمخوفات والعقوبات تستبقي نعيمها مدة أطول وتأمن من الأخذ الكامل أو البأس المستمر. لكن أكثر ما يقع من الأمم هو النظر إلى هذه النذر نظرة مادية بحتة ويغفلون عما فيها من عبر ينبغي أن يتدبرها أولوا الألباب (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ )النحل112 ولنتأمل تعبير القرآن بكفر النعم فهو تعبير عظيم عن شيوع المعصية وغيه لالة على أن المعصية الموجبة للعقاب الدنيوي ليسا هي كفر الإشراك بل هي أعم من ذلك إذ يظهر ان المراد بالكفر هنا ما هو ضد الشكر ، ومن أظهر معالم هذا النوع من الكفر صنع السيئات والتمالؤ عليها والاستكثار منها ، يؤكد هذا تعليل هذه الابتلاءات بما كانوا يصنعون. ويدور السؤال دائما حين نتحدث في هذا الموضوع حول المتضررين في مثل هذه الكوارث الطبيعية فيلاحظ البعض أن أكثرهم من غير الدعاة إلى إشاعة المعصية والعاملين على اتباع الشهوات ، فكيف يمكن ان نتصور مثل هذه النكبات عقابا والأجدر بالعقاب بعيدون عن التضرر بمثل هذه المصائب وهكذا يطرح السؤال ولعل الإجابة عنه موضوع حديثنا القادم.