فترة زمنية مضت على كارثة سيول جدة لا تتجاوز الأسابيع وتحسبها شهوراً... صفحات الجرائد طيلة هذه الفترة لا تخلو من عرض أحداث الكارثة.. كانت الحادثة هي العناوين والمادة الرئيسية للأخبار والمقابلات والتحاليل في وسائل الإعلام. وكانت حديث المجتمع في كل المناسبات.. يُطرح الموضوع للنقاش والتعليق والكل يدلي بما لديه وإضافة جديد من المعلومات والآراء.. أمّا شبكة الإنترنت فقد بسطت سيطرتها لإمكانية مشاركة الجميع فيها والاطلاع على محتوياتها في أي مكان وزمان ولا يخفى على إنسان ما تحويه الشبكة من صور ومناظر مؤلمة للمأساة وتعليقات للمشاركين التي قد تكون متنفساً لانفعالات مكبوتة ألمتّ بهم.. البعض ينفعل ويغضب ويتألم وينعي حظ هذه المدينة العاثر.. ويبكي على أطلال العروس التي ذهب الطوفان بهيبتها وجمالها، والبعض يشكو ويتذمّر ويشجب أعمال المسؤولين. والبعض ينتقد ويعلق ويطالب بإنزال أشدّ العقوبات على المتسببين والقضاء على الفساد. والبعض يطالب بمحاكمة المسؤولين بأثر رجعي من عشرات السنين وأصدر الحكم عليهم بالإدانة مسبقاً قبل صدور قرارات اللجنة وصرح بدخولهم السجن. والبعض أصدر فتواه بأن ما حدث من كارثة بسبب ذنوب أهل جدة!!!! والبعض يناظر ويوصي باقتراحات ويعرض حلولاً سحريّة. والبعض يدافع ويطبل.. وآخرون يتشمتون فقد تكون الفرصة سانحة لتصفية حسابات قديمة.. والبعض صرّح.. وصرّح ثمّ تراجع عن تصريحاته وغيرها لمجاراة رأي مسؤول أو اتقاء لمواجهة قد تحدث. أما الإخوة المواطنون فهم يقرأون ويستمعون ويتابعون ويفكرون ويتفاعلون وينتظرون نتيجة الأحداث.. عاش سكان جدة وبالذات المناطق الشرقية والجنوبية أياماً عصيبة.. خلّفت أحداث الكارثة جروحاً عميقة في أنفسهم وخلفت شعوراً وانفعالات عاطفية لم تستطع النفس الشرية كبحها وتدفق سيل من التعابير والكلمات في صور شتى وأفرزت إبداعات أدبية رائعة في الكتابة والمشاركة في مهرجان الأحزان.. والإعلام هو عريس هذا المهرجان. الجميع شارك في مهرجان الأحزان.. ولكن بصور مختلفة فمنهم من يكتب عن مشاعر في النفس ثم ينشرها في الصحف والبعض يودعها دروج النسيان ليعيد نفضها بين فترة وأخرى. بعض كبار المسؤولين.. ومسؤولي الجمعيات والهيئات.. وأدباء.. ورجال أعمال..ووجهاء مجتمع.. وفنانين.. ورياضيين.. وصحافيين.. شاركوا في المهرجان..، قاموا بزيارة مواقع الكارثة وبحيرة المسك التي لم يفكر أحد قط بزيارتها في السابق مصطحبين معهم كاميرات الإعلام وأدلوا بتصريحات حماسية عن مشاهداتهم وأبدوا تأثرهم الشديد وانتقدوا وشبوا وطالبوا الدولة ب.. وب.. أنهم يحاولون إقناعنا بأن ما يفعلونه ليس عملاً سهلاً ولا عادياً وأنهم يختلفون عن الآخرين أو من باب البريستيج (شوفوني ولا تنسوني). وبعض الكتاب قدم التعزية في بداية مقالته للشعب السعودي في ضحايا أمطار جدة.. كأن أخانا من خارج الوطن وكأن الضحايا هم سعوديون فقط متناسياً الاخوة الوافدين وحق العزاء لهم أيضاً.. البعض يملك المعلومة ويعرضها بطريقته التي تخدم مصلحته.. والبعض يملك الأسلوب والتعبير والكلمات المنمقة بصيغها بأسلوب أدبي مبدع ومنحك تجذب الألباب والقلوب.. ويريدوننا أن نصدق وماذا يضيرنا أن نصدق!!! صدقناهم. والبعض يلجأ إلى أسلوب الإثارة وإشعال الحماس في الأنفس. انتشر فرسان الإثارة والشجب والغضب، وفي مقابلهم عصبة جندوا للدفاع عن ضحايا أو لإعلان براءة المتهمين وإلقاء المسؤولية على آخرين.. مسابقات أعدت بين مصورين هواة ومحترفين لتسجيل ورصد أحداث الكارثة التي كونت لهم مادة دسمة لإبراز مواهبهم في فن التصوير وتم اختيار الفائزين ورصدت لهم جوائز قيمة. رساموا الكاريكاتير أبدعوا في إيصال الصور بطرق مختلفة ت غلب عليها الجرأة والاستهزاء في بعض الأحيان.. قصائد شعر ونكات تُدولت عبر الصحف والإنترنت والجوالات بكميات كبيرة.. الكل شارك فيها.. مهرجان الاحزان لا يمثل صورة قاتمة سلبية فقد برزت منه ملاحم بطولية رائعة مثل الشاب فرمان الذي قام بانقاذ 14 شخصاً ثم توفى... شبابا وشابات في مختلف الاعمار والمؤهلات شاركوا في حملات تطوعية لايصال الامدادات والتبرعات للمتضررين.. قدموا صورة رائعة لملحمة التعاون الاجتماعي من تكاتف وتلاحم انساني... بعض الجهات الحكومية بذلت بعض الجهد للتعويض عن قصورهم. وبمقالتي هذه انضم الى سيل المشاركين...(( أو لا يحق لي ذلك؟؟؟) «ومع الخيل يا شقرا». أنا لست فيلسوفاً ولا اجيد هذه اللغة ولكن انطقتني الاحداث وخلقت في نفسي هواجس انسان آخر تفاعل معها عاطفياً وكتابة... من احدى فوائد هذا المهرجان ان الصوت الاعلامي اصبح عالياً ومتنوعاً وجريئاً مقارنة بمثيلاته في الماضي، شارك الجميع بالاحتفال به وأبرز ابداعات متناقضة. خلقت الأزمة من البعض ابطالاً والأكثرية انكفأوا خوفاً من العاقبة والبعض توارى خجلاً واستحياء مما حدث ثم تجرأوا رويداً رويداً في رفع رؤوسهم. اكتشفت قدرات هائلة لدى البعض في كيفية اقناع النفس بالتلون وعرض القضية والكتابة عنها بطرق مختلفة... واكتشفت سذاجة بعض المسؤولين ومدعي العلم في طرح اقتراحات وتوصيات ارتجالية مضحكة ومخزية ومبكية في نفس الوقت... وادركت بأن الجهل اخطر كثيرا من الفساد.. لذا يجب الا ننكر بأننا تعلمنا دروساً عديدة من مهرجان الحزن... انه مهرجان رائع الجميع فيه ولكن الى متى يستمر هذا؟؟؟؟ هل تكون انفعالات الكارثة هذه فقاعة سوف تنتهي كمثيلاتها في الماضي.. حدث.. وحدث.. ونسينا.. ثم نتذكر من جديد... الكثيرون يقوون بأن هذه الازمة ليست كمثيلاتها فقد انفعل ملك الانسانية... وغضب الملك له ثمنه... نتج عنه تشكيل لجان تحقيق عليا سوف تتخذ قرارات هامة.... نعم.. ستكون القرارات بلسماً للتصبر واجتثاث الألم والحسرة.. ولكن يبقى المواطن بحاجة لبث الثقة والاطمئنان في نفسه بعد ان فقدوها نتيجة استرخاء وتهاون البعض لعشرات السنين. ستكون قرارات هامة وايجابية والبذل اكبر مما تم اعتماده في الماضي ولكن يبقى الأمل في موضوع التنفيذ المشاريع مدروسة وفي الوقت المحدد لها والمتابعة والمحاسبة للمقصرين. لا بد من حماية الناس من انفسهم ومن جهلهم وطمعهم وعدم التفاعل مع رغباتهم اذا كانت تؤدي الى التهلكة وفقد ارزاقهم.. فإن حجم التدمير في كارثة جدة يفوق بمراحل المبالغ المطلوبة لمشاريع الصرف الصحي وتصريف الامطار في المملكة، والمشكلة تتساوى في جميع مدن وقرى المملكة وليست قصراً على منطقة دون الاخرى. ماذا تعلمنا من هذا المهرجان؟ نحن مجتمع عاطفي.. نتأثر بمظاهر الامور البارزة امامنا ونحاكم الآخرين بمجرد تعليقات وآراء تنشر دون النظر بجوهر القضية واساساتها، وقد نتعلم من كل ذلك ان ثمن الكارثة في هذه المرة كان غالياً ليس في الماديات فقط بل في اعداد وارواح الشهداء الغالية التي فقدناها ونسأل الله لهم الرحمة وارجو الا تذهب سدى، وان لا نحتاج الى مزيد من شواهد الاضرحة لكي نفيق ونتفاعل معها مرة أخرى. قد يكون صفاء النية والاخلاص في العمل ونبذ حب النفس والابتعاد عن الشهوات اكثر احترازاً بعودة الثقة في انفسنا ونكون قادرين على تحقيق ما يتوجب علينا فعله.. لكي لا تلعنا الاجيال القادمة على ما خلفناه لهم. وان نكون عوناً وأسوة في تحقيق تطلعات سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في خدمة هذا الوطن وخير مواطنيه والا سوف اقول لكم وحتى نلتقي مرة أخرى... كل مهرجان حزن وأنتم بخير...!!