للاستبصار، بوصفه المَلَكة النقدية والفكرية والأخلاقية، أهميته الكبرى والعملاقة، في بيئة تحتوي على أذهان وآراء ضيّقة وجزئية، لا تكاد تلتمس أية تصورات كلية، وتحليلات شاملة للأوضاع التي نعيش بها، وتعيش بنا! في الحياة احتمالات شتّى، وفي الكون حسابات ومآلات لا تُحصى ولا تُدرك، وفي الوجود ممكنات غير متناهية ولا محدودة، وفي تجاربنا وخبراتنا نجد أنفسنا بإزاء مواقف طبيعية (مادية) وإنسانية (ثقافية) تلحُّ علينا دائمًا بالتفكير والتدبر والتبصّر. أمام هذه الظواهر جميعها نحتاج إلى مَلَكة “الاستبصار”؛ فهذه المَلَكة هي الخيط الهادي إلى التفكير في المشكلات ومحاولة حلها، أو على الأقل هي التي تتيح لنا أن ندرك مشكلاتنا، ونتعامل معها تعاملاً رشيدًا ومتوازنًا يتناسب مع حجم المشكلة وبُعدها الحقيقي. إن الاستبصار لا يتم دفعة واحدة: فهو ليس بالنزوة الطائشة التي تخبط خبط عشواء، لا تحسب حساب المتقدم من المعضلات، وليس بالحماسة الزائدة والتي من صفاتها عدم التروّي، ولا التمهّل في إصدار الأحكام، كلّا، فإن الاستبصار هو سبر أعماق أية مشكلة، ومساكنتها، والصبر عليها، وانتظار الحدس النهائي الذي يخبرنا بالضبط عن ماهية هذه المشكلة، وعن حلها المُنتظر والمُزمع. وهو الحل الذي يأخذ بحسبانه الجانبين الرئيسيين والمؤثرين في حياة أي إنسان وكل إنسان، وأقصد بهما الجانب الطبيعي المادي، والذي يُمكن أن نختصره بالمؤثرات البيولوجية والغريزية والطبيعية المركوزة بطريقة موضوعية في جسم الإنسان، وأمّا الجانب الآخر فهو الجانب الثقافي والفكري والذي يتشكّل بهيئة مبادئ ونظريات وغايات وتطلّعات يعيشها كل فرد عاقل. والاستبصار نفسه لا بد وأن يكون أصيلاً، وأقصد بالأصالة هُنا: أن يكون التفكير نابعًا من ذات الإنسان المفكر، من آلامه، وخيباته، وتحدياته، وآماله. أن يكون التفكير جديدًا عليه (لا أقول جدة مطلقة فهذا في حكم الاستحالة) ولكن أن تكون هذه الجدّة نسبية ومعقولة، إذ لا يمكن أن نصف شيئاً بالأصالة وهو منقول عن الغير، ولا يمكن أيضًا أن نتصوّره جديدًا وهو مقطوع ومبتوت الصلة عن البيئة، أو المحيط، أو الطبيعة، أو غير ذلك من المنابع التي يصدر عنها أي تفكير طبيعي وقويم. إذن فالأصالة -وهي صفة الاستبصار- لا بدّ وأن تنشأ من مُعاناة وكدح وكفاح صادق لأجل الظفر بالحقيقة، تلك الحقيقة التي نعيش نحن -معاشر الإنسيِّين- لنبحث عنها، ونتلمّس آثارها فيما حولنا. هذا كله يفيد كون الاستبصار -بجانب أنه مسألة معرفية على غاية الأهمية- هو أيضًا أمر حتمي للإنسان، ومُزاولة عظيمة للجزء “المتعالي”، و“الفوقاني” في الجانب الإنساني، أي الجزء المفكر والباحث والدارس لكافة الظواهر والموضوعات المحيطة بنا. وهو ليس نشاطًا بعيدًا عن عمق الفرد الذي ينشد الحرية، وليس معزولاً عن هموم الأمة ونشدانها لتطبيق وتحقيق قيمها المثالية والعليا. وللاستبصار جانبه الأخلاقي كذلك، فهو ليس مجرد تفكير أو بحث معرفي لينتهي عند حدود هاتين الكلمتين، ولكنه أيضًا، تأمّل أخلاقي واعتدال سلوكي. فالاستبصار مشتق من البصيرة، والبصيرة ليست فقط حاسة البصر الساذجة والجسمانية، إنها أعمق من الحس والفكر معًا، وهي تبلور للإنسان من حيث هو كذلك، أي: الإنسان في شموله الأخلاقي والوجداني والمعرفي. فالاستبصار من هذه الناحية هو الفعل الناشط للإنسان حينما يدرك آفاقه وزواياه وأعماقه وأبعاده الكاملة والشاملة، دون أن يُهمل جانبًا على حساب جانب آخر . ومن البديهي أن تكون هذه النظرة الاستبصارية والشمولية للإنسان مُضادة للنظرات التقليدية التي ترى الإنسان على أنه روح (النظرة الدينية التقليدية)، أو التي تراه مادة (النظرة العلمية الموضوعية)، فالإنسان -وهذا ما لا أشك فيه- هو أعلى من الروح والمادة، وهو يند عن التحديد والتعريف الصارم والحديدي، والذي لا يُبقي مخرجًا ولا منفذًا للإنسان كي يُمارس حريته التي (كما قال عنها الوجوديون) أساس ماهيته، والغرض من وجوده. والحرية، إن لم تكن نابعة من بصيرة، ومسؤولية وتوازن طبيعي وثقافي في آن، فإنها تنقلب على صاحبها، وتؤدي به إلى كوارث جسيمة غير محمودة العواقب، فاللجام المعقول للحرية، هو أن نكون متبصرين، وأخلاقيين، ومتأمّلين دائمًا. وبنظرة سريعة إلى واقعنا نجد أن ملكاتنا النقدية قاصرة ومتواضعة فيما يخص الجانبين المؤثرين على الإنسان، أعني الجانب الطبيعي (المادي)، والثقافي (الإنساني) نظرًا لاقتصار النظر والفكر على سياقات محدودة وجزئية ومفتتة إلى ذرات صُغرى: فمن تفكير اقتصادي استهلاكي غايته النهائية هي مراقبة شاشات الأسهم دون التوغل إلى مبادئ الاقتصاد ومنتهياته، إلى تفكير شعبوي ذي عناصر ضيقة مسكونة بهاجس المنطقة، أو العشيرة، أو العائلة، أو التقاليد البالية، ومنه إلى لمحات أدبية، وشطحات شعرية، وهلوسات إنشائية لا تكاد تتجاوز ذات قائلها، وقل مثل ذلك عن الآراء الدينية النقلية التي لا تمس صلب الدين، وطبيعته الثورية على كافة مظاهر الجور والظلم ضد الإنسان، وإنما تكتفي بالقشور الشكلية دون اللباب المضمونية. ومن ثم، فإن للاستبصار، بوصفه المَلَكة النقدية والفكرية والأخلاقية، أقول إن له أهميته الكبرى والعملاقة، في بيئة تحتوي على أذهان وآراء ضيقة وجزئية، لا تكاد تلتمس أية تصورات كلية، وتحليلات شاملة للأوضاع التي نعيش بها، وتعيش بنا!