ملك الأردن يغادر جدة    سوق الأسهم السعودية يستعيد عافيته بدعم من قطاعات البنوك والطاقة والاتصالات    أمير حائل يطّلع على مبادرة توطين الوظائف وتطوير قطاع الصناعات الغذائية    رئيس مجلس الشورى يعقد جلسة مباحثات رسمية مع نظيره القطري    ولي العهد⁩ يستقبل ملك الأردن    أمير تبوك يهنئ نادي نيوم بمناسبة صعوده لدوري روشن للمحترفين    أمير جازان يرعى ملتقى المواطنة الواعية    وكيل محافظة بيش يكرم القادة و المتطوعين بجمعية البر ببيش    "وزير الصحة" متوسط العمر المتوقع في الحدود الشمالية يصل إلى 81 سنة    بخبرة وكفاءة.. أطباء دله نمار ينقذون حياة سيدة خمسينية بعد توقف مفاجئ للقلب    القبض على مواطنين لترويجهما مادتي الإمفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين و 1.4 كيلوجرام من الحشيش المخدر    رئيس جامعة الإمام عبدالرحمن يفتتح أعمال ومعرض المؤتمر ال17 لمستجدات الأطفال    وكيل محافظة بيش يدشن أسبوع البيئة    حظر جماعة الإخوان في الأردن    الدكتور الربيعة يلتقي عددًا من المسؤولين في القطاع الصحي التونسي    فعاليات ثقافية بمكتبة الملك عبدالعزيز لليوم العالمي للكتاب    السعودية تدين بأشد العبارات الهجوم الإرهابي الذي وقع في ( با هالجام) في جامو وكشمير والذي أسفر عن وفاة وإصابة العشرات    Saudi Signage & Labelling Expo يعود إلى الرياض لدعم الابتكار في سوق اللافتات في المملكة العربية السعودية البالغة قيمته 492 مليون دولار    الداخلية: 50,000 ريال غرامة بحق كل مستقدم يتأخر عن الإبلاغ عن مغادرة من استقدمهم في الوقت المحدد لانتهاء تأشيرة الدخول    أمير منطقة جازان: فرص سياحية واعدة تنتظر المستثمرين في جزر فرسان    بيان مشترك في ختام زيارة رئيس وزراء جمهورية الهند للسعودية    ترند اليوم لا تتذكره غدا في هيئة الصحفيين بمكة    رئيس الوزراء الهندي في المملكة    الاحتلال يُدمر آليات الإنقاذ استهدافًا للأمل في النجاة.. مقترح جديد لوقف الحرب في غزة وسط تصعيد متواصل    عودة رائد الفضاء دون بيتيت بعد 220 يوما    مصر ولبنان يطالبان بتطبيق القرار 1701 دون انتقائية    استمرار تحمل الدولة رسم تأشيرة عمالة مشروع «الهدي».. مجلس الوزراء: إنشاء غرفة عمليات لاستقبال ومعالجة بلاغات الاحتيال المالي    السجن والغرامة لمستخدمي ملصقات الوجه على WhatsApp    وفاة إبراهيم علوان رئيس نادي الاتحاد الأسبق    105 تراخيص جديدة .. ارتفاع الاستثمارات والوظائف الصناعية في السعودية    إطلاق أكثر من 30 كائنًا فطريًا في محمية الملك خالد الملكية    فريق عمل مشروع توثيق تاريخ كرة القدم السعودية ينهي أعماله    سفراء الوطن يحصدون الجوائز العالمية    مؤتمر مكة للدراسات الإسلامية.. فكر يبني وانسانية تخدم    إعلاميون ل"البلاد": خبرة الهلال سلاحه الأول في نخبة آسيا    اقترب من مزاحمة هدافي روشن.. بنزيما.. رقم قياسي تاريخي مع الاتحاد    دول آسيوية تدرس مضاعفة مشتريات الطاقة الأميركية لتعويض اختلال الميزان التجاري    «التواصل الحضاري» يدرّب 89 طالبًا من 23 جامعة    جامعة الملك سعود تحتفي باليوم العالمي للغة الصينية    معرّفات ظلامية    أمير المدينة المنورة يطلع على جهود "الأمر بالمعروف"    أمانة مكة تعلن ضوابط الشهادات الصحية للحج    أمير الرياض يستقبل السفير الإندونيسي    مؤتمر القصيم لطب الطوارئ يختتم أعماله    دليل الرعاية الصحية المنزلية.. خارطة طريق لكفاءة الخدمات    7.7 مليار ريال أثر مالي لكفاءة الإنفاق بهيئة تطوير المنطقة الشرقية    7 مليارات ريال تمويل القروض الزراعية    ما الأقوى: الشريعة أم القانون    نائب أمير الرياض يُشرف حفل السفارة الأمريكية بمناسبة ذكرى اليوم الوطني    "جامعة جدة" تحتفي بأبطال المبارزة في بطولة المملكة للمبارزة SFC    بنزيما يحظى بإشادة عالمية بعد فوز الاتحاد على الاتفاق    "هيئة الأدب" تدشن جناح مدينة الرياض في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    موجبات الولادة القيصرية وعلاقتها بالحكم الروماني    أمير الشرقية يرعى حفل تخريج الدفعة ال 46 من طلاب جامعة الإمام عبد الرحمن    رئيس المالديف يستقبل البدير    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية أفغانستان لدى المملكة    نائب وزير الخارجية يستقبل مساعد وزير الخارجية مدير عام إدارة الشرق الأوسط وأفريقيا بوزارة خارجية اليابان    الرئيس العام للهيئات يلتقي منسوبي فرع المدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجاز في القرآن الكريم .. وموقف الظاهرية منه

لم يكن لنا من بدّ في ملحق الرسالة إلا نزولا عند رغبة العلامة الكبير أبو عبدالرحمن ابن عقيل في نشر هذه المقالة كما هي، وذلك بعد أن طرحنا عليه سؤالا أثناء المواجهة مفاده لا يخرج عن موقف الظاهرية من المجاز في القرآن الكريم، خاصة بعد أن تعالت بعض الأصوات منكرة وروده في القرآن الكريم، فأبى أن يكون الكلام فيه على الارتجال كالعادة في الحوارات الصحفية، حيث آثر أن يفصّل القول فيه تفصيلا يقم الحجة التي يؤمن بها، وينشر الدليل الذي يعتقد به.. فكانت هذه إجابته كما هي: تسألني حفظك الله عن بحر متلاطم بأن أجمعه في عُبِّي، ومثل هذا فإن تقصِّيه في جريدة متعذِّر، والجواب المبتور لا يفيد؛ لهذا أسلك سبيل الاعتدال، وبالله التوفيق؛ فاصبروا عليَّ أيها القُرَّاء ؛ فأنتم على خير وفائدة إن شاء الله، والذي أحققه لكم أيها الأحباب: أن هناك مجازاً لغوياً في المفردة والصيغة والحرف من حروف المعاني، ومجازاً أدبياً في تركيب الكلام كالاستعارة، ولا يُدرج في متون اللغة.. وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً وسيعاً جدّاً؛ وسبب ذلك الخلط بين المجاز وغيره كالمعرَّب كما في صنيع الإمام الزركشي في المجلد الثالث من البحر المحيط، وقبل التحقيق للمسألة أحب أن أَلُمَّ لكم اختلاف العلماء من ظاهرية وغيرهم. ومَنْ نفى المجاز في القرآن أو السنة لزمه نفيه في اللغة؛ لأن الشرع نزل بلغة العرب، ولزمه إنكار الاشتقاق الكبير ولا مَفرَّ منه؛ فأما نفيُ المجاز في القرآن الكريم فهو مذهب الإمام داوود الظاهري، وابنه محمد الظاهري، ومذهب منذر بن سعيد البلوطي الظاهري، وادعى ابن عربي الحلولي الاتحادي -ويا ليته لم يكن ظاهرياً في الفقه- أن الظاهرية لم تنكر إلا مجاز الاستعارة.. يعني نوعاً من المجاز الأدبي لا اللغوي، وكذب في ذلك؛ لأنه لم يحقق اختلافهم؛ ولهذا ردَّ الإمام ابن سريج الشافعي على الإمام محمد بن داود الظاهري عندما أنكر المجاز في القرآن بقول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ) [سورة الحج/40]، وقال: (الصلوات لا تُهدم؛ وإنما أراد به مواضع الصلوات، وعبَّر [الأفضل: وتكلم، أو أخبر ] بالصلوات عنها [أي عن مواضع الصلوات ] على سبيل المجاز؛ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه)؛ فلم يكن عند ابن داوود الظاهري أدنى جواب .. الحجة لازمة قال أبو عبدالرحمن: إذا كانت الصلوات في هذا الموضع من اشتقاق العرب فالحجة لازمة ابن داوود، وإذا كانت معرَّبة فهي حقيقة عند العرب على مُسَمَّاها؛ لأن هذا شأن العرب في المعرَّب -وهو منقول من معنى لغة أخرى؛ فاخْتَلَف الواضعُ- ما لم يشتقوا من المعرَّب؛ فيكون الاشتقاق مجازاً عربياً من لغة معرَّبة .. وهذا يدل على أن الصلاة مما بقي بلفظه من الأسماء التوقيفية ، ولكن المرجع لاشتقاق العرب فيما تحدَّد عندهم من معاني الصاد واللام والحرف المعتل، وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام :(والصلوات بيوت تبنى في البراري للنصارى يصلون فيها في أسفارهم تُسَمَّى صلوتا؛ فعربت صلوات)، وبيَّن أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي أن (صلوتا) عبرانية، ورويت بالثاء المثلثة (صلوثا)؛ فحينئذ يكون ابن داوود مخطئاً في نفي المجاز، ولا تلزمه الحجة في هذا الموضع؛ لأنه هو وابن سريج غفلا عن المعنى الحقيقي المعرَّب.. والمحقق عندي ثبوت المجاز عند الإمام ابن حزم، وتردُّده في ذلك بسبب لبْسٍ عنده لم يُحقِّق به معنى المجازين اللغوي والأدبي؛ فقال مثبتاً للمجاز مشترطاً: (والذي نقول به: إن الاسم [هذا مجاز لغوي] إذا تيقنا بدليل نصٍّ أو إجماع أو طبيعة أنه نُقل عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده؛ فإن الله تعالى هو الذي علَّم آدم الأسماء كلها، وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء) الفهم الخاطئ وبناء على هذا الفهم الخاطئ لمعنى المجاز؛ إذ جعله من فعل الله وحده سبحانه، ولم يجعله من تعليمه خلقه، وأن شرعه جاء بما في لغةٍ عربية علَّمها العرب بما حفظوه أو فرَّعوا عليه بالسليقة.. بناء على هذا الأصل قال راداً على من أنكر المجاز: واحتج من منع المجاز بأن قال:(إن المجاز كذب، والله تعالى ورسوله يبعدان عن الكذب) .. قال علي [يعني ابن حزم]: فيقال له: (صدقتَ)، وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علَّقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذباً، بل هو الحق بعينه؛ لأن الحق هو فِعْلُه تعالى، والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله).. وذكر أنه أحكم هذه المسألة في كتابيه (التقريب) و(الفصل)، والواقع أنه لم يُفْرد للحقيقة والمجاز بحثاً في هذين الكتابين ،وإنما مثَّل لمنهجه في حمل الكلام على المعنى الوارد في لغة العرب بما يناسب السياق، وأنه لا يجوز الخروج عما رُكِّبت عليه ألفاظ اللغة من المعاني، بل بالغ في ادعاء الحرفية الجامدة أحياناً.. ثم قال مفرِّعاً:( ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفاً من الآي التي تنازعوا فيها؛ فإن الشيء إذا مثِّل سهل فهمه ؛ فمن ذلك قوله عز وجل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [سورة يوسف/82] فقال قوم: (معناه واسأل أهل القرية، واسأل أهل العير)، وقال آخرون: (يعقوب عليه السلام نبي؛ فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لأجابته) .. قال علي[هو ابن حزم]: وكلا الأمرين ممكن، ومنه قوله تعالى: (انطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) [سورة الكهف/77 ]. الإرادة المعهودة فقد علمنا بضرورة العقل أن الجدار لا ضمير له، والإرادة لا تكون إلا بضمير الحي هذه هي الإرادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة على سواها؛ فلما وجدنا الله تعالى وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية: علمنا يقيناً أن الله عز وجل قد نقل اسم الإرادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط ؛ فسمى الميل إرادة، وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء .. إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها ، ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز وجل.. ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلاً، وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الإرادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره: قول الراعي: قلق الفُؤوس إذا أردن نصولا وذكر أبو بكر الصولي أن ابن فراس الكاتب وكان دهرياً سأله في هذه الآية ، فأجاب أبو بكر بهذا البيت، وقد قال قوم: (إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة) .. وبلى هو قادر على ما يشاء ، وكل ما يتشكل في الفك، ولكن كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات فهو مكذوب، كما أن كلَّ مدَّعٍ ما لم يأت بدليل فهو مبطل، وكذلك قوله تعالى:( وَهِيََجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) [ سورة هود/ 42 ]؛ فإنه تعالى سمى حركة السفينة جرياً ، وحركة السفينة اضطرارية ، وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء ، فهو خالق الأسماء والمسميات كلها [ قال أبو عبدالرحمن : وهو الذي علَّم العرب التعبير بجريان السفينة قبل التنزيل ، وعلَّم أمثالَ ذلك كثيراً جداً ].. حاشاه لا إله إلا هو، وأما قوله تعالى:( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [سورة البقرة/93]؛ فإنما عنى تعالى حب العجل على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه ، وأما قوله تعالى:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) [ سورة ق/30 ] وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها .. في كلام العرب وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى:( ِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [ سورة الأحزاب/72 ] .. قال علي [هو ابن حزم ]: وهذا أيضاً عندنا على الحقيقة، وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيَّرها؛ فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الأمانة سلبها إياه، وسقطت الكُلُف عنها.. وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضاً ، والمراد بذلك أنها لم يُحَمِّلها؛ إذْ لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل، ولا النفس المختارة المميزة، وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها ؛ فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح: (أبى ذلك سؤددك)، وإذا أرادت الذم:( أبى ذلك لؤمك) ..أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له، وكذلك في الذم.. أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له؛ فعلى هذا كانت إباية السموات والأرض لا على ما سواه .. إلا أن الأول أصح وبه نقول ؛ وإنما فرَّقنا بين هذا في هذا الوجه وبين ما قلنا آنفاً في إنطاق جهنم لأن كلام الله عز وجل كله عندنا بيان لنا ، وجارٍ على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا ؛ وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل :( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ )[ سورة السجدة/9]، وحضَّنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن ، وأخبرنا بأنه بيان لنا ، وكل ذلك لا يكون إلا بما تميِّزه عقولنا لا بما يضادها؛ فلما صح ذلك كله ، وأدَّانا التدبر والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل ، وأن الأرض كذلك ، وأن حد النطق هو التمييز للأشياء ، وأن التمييز لا يكون إلا في حي ، وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة ، وأن المميز هو بعض الحي لا كله، وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإمكان التصرف في الصناعات والأعمال المختلفة بإرادة ، وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست للأرض ، ولا للأفلاك، ولا الجبال له حاملة: علمنا أن هذه اللفظة التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معانٍ أخر من صفات هذه الأشياء المخبر عنها، الموجودة فيها على الحقيقة، ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبَّس الأشياء، ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا.. وبالجملة فمن أراد إخراج الأمور عن حقائقها في المبادئ، ثم عن حقائقها في المعاهد؛ فينبغي أن يُتَّهم في دينه، وسوء أغراضه.. فإن سَلِم من ذلك فلا بد من وصمةٍ في عقله، أو قوة في جهله.. إلا أن هذا كله لا يعترض على الوجه الأول؛ لأن الإنطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه إذْ أبت قبول الأمانة؛ وإنما يُعترض بهذا كله على من يقول: إنها باقية على نطقها إلى اليوم؛ فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا وبالله التوفيق.. للحجارة عقل! وقد ذكر رجل من المالكيين يلقب [ ابن ] خويز منداذ: (أن للحجارة عقلاً)، ولعل تمييزه يقرب من تمييزها ، وقد شبه الله قوماً زاغوا عن الحق بالأنعام وصدق تعالى ؛ إذْ قضى أنهم أضل سبيلاً منها ؛ فإن الأنعام لا تعدو ما رتَّبها ربها لها من طلب الغذاء ؛ وإرادة بقاء النوع ، وكراهة فسادها بعد كونها .. وهؤلاء رتبهم خالقهم عز وجل ليعرفوا قدرته ، وأنها بخلاف قدرة من خلق؛ وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه ؛ فبعدوا ذلك : فمن مشبِّه قدرةَ ربِّه تعالى حُكْمَ عَقْله ؛ فيصرفه به .. تعالى الله عما يقول أهل الظلم علواً كبيراً.. ومن مفسدٍ رُتَبَ المخلوقات ، وساعٍ في إبطال حدودها ، وإفساد الاستدلال بها على التوحيد :( ِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [ سورة الروم/32 ] ، وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف، وتالله لتطولن ندامة من لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه، ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل المعضلة، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ؛ فقال هذا الجاهل : إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى :( قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة البقرة / 74] .. قال : ( فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله ؛ فدلَّ ذلك على أن لها عقلاً ) ، أو كلاماً هذا معناه .. قال علي [ أي ابن حزم ] : ونحن نقول : إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل ، فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها ، وكيف يكون لها تمييز وعقل والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها ؛ فكذَّب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصاً ؛ إذْ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز وجل؛ فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا )) . الاشتقاق هو الأصل قال أبو عبدالرحمن : ولم أستكمل كلام أبي محمد رحمه الله عن المجاز ؛ فليراجع بقيته من أراد ؛ فليس فيه جديد ،وخاطر أبي محمد مضطرب في المجاز كاضطرابه في الإجماع ، ولم يبحث الحقيقة والمجاز على طريقة أهل التخصُّص في اللغة وأصولها الذين كان برهانهم الاستقراء الحاصر بمصاحبة الفهم في تمييز خصائص الاستعمال ، ولن يستقيم له فهم الحقيقة والمجاز وفهمه للاشتقاق مضطرب أيضاً ، والاشتقاق هو الأصل في المجاز .. قال رحمه الله تعالى : (( واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل ، وأن الأحكام إنما وقعت لعلل : بأن الأسماء مشتقة في اللغة .. وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة ؛ إذ لا سبب في الاشتقاق يُتَوَصَّل به إلى إثبات العلل في الأحكام ؛ فكيف وهو باطل ! .. والاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشيئ ما مأخوذ من صفة فيه كتسمية الأبيض من البياض، والمصلي من الصلاة ، والفاسق من الفسق ، وما أشبه ذلك .. وليس في شيئ من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه ، ولا مصلياً من لا يصلي ، ولا فاسقاً من لا فسق فيه؛ فأي شيئ في هذا مما يُتُوصَّل به إلى إيجاب القياس ، والقول بأن البُرَّ إنما حرم أن يباع بالبر متفاضلاً لأنه مأكول ، أو لأنه مكيل ، أول لأنه مدخر ؟! .. وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل ؟.. وبالله تعالى التوفيق .. فاسد ألبتة وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد ألبتة ، وهو كل اسم عَلَمٍ وكل اسم جنس أو نوع أو صفة فإن الاشتقاق في كل ذلك يبطل ببرهان ضروري ، وهو أننا نقول لمن قال : ( إنما سميت الخيل خيلاً لأجل الخيلاء التي فيها ، وإنما سمي البازي بازياً لارتفاعه ، والقارورة قارورة لاستقرار الشيئ فيها ، والخابية خابية لأنها تخبئ ما فيها ): إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما ألبتة : أحدهما : أن تسمي رأسك خابية؛ لأن دماغك مخبوء فيه، وأن تسمي الأرض خابية؛ لأنها تخبئ كل ما فيها، وأن تسمي أنفك بازياً لارتفاعه، وأن تسمي السماء والسحاب بازياً لارتفاعما، وكذلك القصر والجبل، وأن تسمي بطنك قارورة؛ لأن مصيرك مستقر به، وأن تسمي البئر قارورة؛ لأن الماء مستقر فيها، وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلاً ؛ للخيلاء التي فيهم ؟!!.. ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتَّخَذَين لإضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب، وصار ملهى وملعباً وضحكة يُتطايب بخبره، وكان بالرحمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك ، فإن أبى [أي أبى الاتصافَ بالجنون] تَرَكَ اشتقاقه الفاسد. والوجه الثاني: أن يقال: إن اشتققت الخيل من الخيلاء أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبء: فمن أي شيئ اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبء؟.. وهذا يقتضي الدور الذي لا ينفك منه، وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه، وهذا جنون، أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية، وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم، ومع أنه كفر فهو محال ممتنع)). رأي خاطىء قال أبو عبدالرحمن: تسمية الأبيض من بياض فيه قال به جمهور النحاة، وجمهور علماء أصول اللغة، وهو رأي خاطئ، بل ذلك تحويل إلى صيغ (أوزان) معروفة بالاستقراء من لغة العرب؛ فالأبيض على(أفعل)، وهي هنا للوصف، وتأتي للتفضيل، والبياض على وزن (فَعال) بفتح الفاء وهو اسم للصفة تحلَّى بشيئ منها الأبيض، وتأتي اسماً جمعاً لفَعالة مثل سحاب وسحابة، واسم وقت الفعل نحو الصرام .. إلخ ، والغالب بالاستقراء أن الأقل حروفاً من الأسماء يكون معناه أصل المعاني بالاشتقاق؛ لأن زيادة المبنى لزيادة معنى استجدَّ، ولم أقل(الأقل حروفاً من الأفعال)؛ لأنه لا فِعْل إلا من مفعول معيَّن هو الاسم.. والاشتقاق ليس اختراعاً، وإنما هو استخراج شيئ موجود من شيئ موجود بكليَّته، والتعليل يُسْتَخدم في بيان سبب الاشتقاق .. والقياس النَّصِّي المعيَّن في الشرع، والقياس في أمور دنيانا: طريق لمعرفة الفارق المؤثِّر وغير المؤثر القاضي بالتسوية ؛ فالقياس عمل القائس ، وبرهانه من ملاحظة الفارق وجوداً ، أو عدماً ، أو وجوداً غير مؤثر ، ولا علاقة له بالاشتقاق اللغوي .. وأما اشتقاق الخيل من الخيلاء فقد أنكر أبو محمد مجازاً صحيحاً صريحاً ينقض ما في بعض كلامه من نفي المجاز ، ولكن جزى الله أبا محمد رحمه الله تعالى خير الجزاء ؛ إذْ نبهنا إلى نصٍّ عن عرب السليقة يدل على معرفتهم أخْذَ بعض معانيهم من بعض.. قال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى: ((سمعت مَن يحكي عن بشر الأسدي : عن الأصمعي قال : كنت عند أبي عمرو بن العلاء وعنده غلام أعرابي ؛ فسُئل أبو عمرو: لم سميت الخيل خيلا ؟.. فقال: لا أدري.. فقال الأعرابي: لاختيالها.. فقال أبو عمرو اُكتبوا )) . يلجم كل مسفسط قال أبو عبدالرحمن: هذا نص عن أعرابي من عرب السليقة يُلْجِم كل مسفسط في إنكار المجاز، وهو إسناد صحيح، والقوم [ أعني منكري المجاز] لم يتَّبعوا منقول كلام العرب ولا معقوله، وعلَّق ابن فارس رحمه الله تعالى -وكفاك به تخصُّصاً في لغة العرب- بقوله: ((وهذا صحيح؛ لأن المختال في مشيته يتلوَّن في حركته ألواناً)) .. قال هذا بناء على تأصيله ؛ إذ جعل أصل المادة تلوُّن في حركة المُختال؛ فلتستقرِئ بالحصر معاني المادة بإيجاز على هذا النحو : 1- خال الشيئ أنه كذا بمعنى توهَّمه، وهذا مشتق من الخيال، ومن التوهُّم اشتق الظن. 2- خيَّل عليه بمعنى وجَّه إليه تهمه، وهذا مشتق من الظن؛ لأن التهمة مدعاة للظن. 3- خيَّل فيه الخير تفرَّسه، وهذا مشتق من الخيال الصادر عن تصوُّر. 4- ومثله السحابة المُخيِّلة تحسبها ماطرة.. مشتق من الظن، والظن أصله من الخيال. 5- أخْيلت السحابة تهيَّأت للمطر.. أي ظهر خيالها ، ويأتي أصل معنى الخيال. 6- والخال والخيلاء كبرياء، وأصله من الخيال.. تخيل نفسه في كمالٍ رفعه للكبرياء والإعجاب بالنفس.. قال الزبيدي:(الكبر عن تخيُّل فضيلة تتراأى للإنسان من نفسه)؛ فهو غير محمود على كِبْره إن وُجِدت الفضيلة؛ فإن كان عارياً منها فذلك داء يسمونه في العصر الحديث (انفصام الشخصية).

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.