كانت قضية ديكارت الكبرى تكمن في صراعه مع الأفكار التي ربّي عليها واعتقد صحتها ، فقد قرّر أن يلغيها من ذاكرته دفعة واحدة؛ ليستبدل بها خيرا منها ، أو يرسخها إذا ثبتت له قيمتها بعد أن يزنها بموازين العقل . إن تغيير المعتقدات ليس بالأمر الهيّن فهو بحاجة إلى مصابرة وقدرة على تحمّل المشاقّ حتى بلوغ الغاية . مع كل هذا مضى ديكارت في مهمته ؛ لإيمانه أن تغيير معتقدات الفرد أهون من تغيير معتقدات الجماهير حتى في أكثر الأمور تفاهة ، وإذا تزعزعت ثقة الجماهير في الأفكار فمن الصعوبة إقناعها بصحتها . خروجا من ربقة المألوف ، وبحثا عن منهج سديد للمعرفة قرر ديكارت أن يتخلى عن ثلاثة علوم ظن في البداية أنها يمكن أن تساعده في الوصول إلى معرفة الحقيقة ، وهي : المنطق ، والتحليل الهندسي ، والجبر ، فاكتشف بعد أن اختبر كفايتها الإجرائية أنها لا تفيده بشيء . فلجأ إلى منهج جديد ينطوي على مزايا تلك العلوم ويخلو من عيوبها ، وأقامه على أربعة أسس لا يمكن تجاوزها : 1- ألا تقبل شيئا ما على أنه حق ما لم يثبت يقينا أنه حق . 2- تقسيم المشكلة المراد حلها إلى أجزاء على قدر المستطاع . 3- البدء بالأبسط والأسهل معرفة للوصول إلى معرفة أكثر أجزاء المشكلة ترتيبا ،وترتيب الأجزاء التي لا يبدو بينها ترتيب وفق ترتيب يمليه النظر . 4- الإحصاءات والمراجعة الشاملة التي لا تغفل من المشكلة شيئا . هذه الأسس الأربعة حفظت ديكارت من التهور والأحكام المسبقة والخضوع لسلطة المعرفة والتشيّع الأعمى للأفكار فالحق ما ثبت أنه حق ، لأن الظنون والأوهام لا مجال لها في البحث العلمي . لقد هيأت هذه الأسس لديكارت الطريق الصحيح لحل المشكلات التي تعترضه ، وعلمته أن إدراك دقائق المشكلة ، وعلاقاتها الداخلية جزء من حلها ، ورسخت في ذهنه أن العقل هو سبيل الحصول على المعرفة ، وأن توظيفه في المعرفة هو الذي يمايز بين الناس . وفرض هذا العقل المنهجي على ديكارت عددا من القواعد الأخلاقية المؤقتة تتمثل في : 1- المحافظة على الدين ، وطاعة قوانين البلاد ، وقيادة النفس وفق الآراء الأكثر اعتدالا التي أجمع العقلاء على قيمتها ؛ لأنه قرر ألا يقيم لأفكاره الخاصة أي اعتبار حتى يثبت له صحتها بالاختبار ، وأن يتعايش مع أفكار المجتمع التي أقرها العقلاء ، وقد يكون غيرها في أمة أخرى أفضل منها ، لكن معرفة عمل العقل الاجتماعي فرض عليه هذا المسلك ، فليس المهم أن تفعل ما تعرف بل ما تعتقد . 2- ألا يكون للمعرفة عليه سلطان فأكثر الأفكار وضوحا وأقواها تأثيرا ، مثلها مثل أغمض الأفكار وأضعفها إذا ثبت للعقل أنها كذلك ، وهذا سلوك شاق ؛ فإن للأفكار سلطة على الناس ، والشك في بعض الأفكار المركزية التي تحكم وعي الناس أمر بالغ الصعوبة ، وكثير من الناس يعرف فداحة كثير من الأفكار ولكنه يعجز عن تصحيحها لما لها من سلطة على عقول الناس جعلتهم يعتقدون أنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . [email protected]