طوال نشأتي القروية، لم أكن في أي فترة، حبيس الجن والعفاريت، رغم كثرة حديث أصدقاء الصبا عن «الشبلنجي» و «أبو رجل مسلوخة» و»أم الشعور» والأرانب التي تجري على سكة «السماعنة»!. كان أبي قد نجح باقتدار وحكمة في تشكيل طفولتي على الإلف والأمان والاطمئنان، وأخرجني من قبضة الرعب وعالم الأسرار المجهولة، ومحفزاً شعوري بجمال الطبيعة منذ مولد الفجر، وحتى الخلود للنوم. واستكملت أمي المهمة، بحواديت عن الخير.. قيمة وأشخاصاً وبصمات، وعن الحق معنى ومواقف وحكايات، فإذا ما ماتت جارة أو جار، ظلت تحكي عن مآثره، وكأنها تتحدث عن إنسان لم نعرفه!. وكان الفجر في بيتنا أشبه بمظاهرة يومية، حيث تؤذن الديوك المنتشرة على «الفراندة»، وتشقشق العصافير على نوافذ كل غرفة، ويدوي صوت الكروان، قبل أن يصدح المؤذن برفع الأذان! بعده مباشرة، يأتي صوت قطار الخامسة المنطلق بالطلاب والعمال والكادحين الى القاهرة، وهو يحدث عزفاً على القضبان!. مع انتشار خيوط الشمس، تكتمل طقوس المظاهرة، حيث تشترك العجول السائبة، والجحوش النافرة، والخراف المنتشية، والكلاب المستعرضة، وسعيد الحظ فينا من يستيقظ قبل أخيه وأخته صوب النخلة لجمع ما تساقط منها، أو جهة «البتية» في الدار القديمة لجمع البيض!. مع ذلك، ظلت «المقابر» تمثل لي عالماً غامضاً، أشعر برهبة كلما اقتربت منها في أي مشوار بالليل أو بالنهار!. ثم كان ما كان وسكنها أبي، فأصبحت أمرُّ عليه في أي وقت، ومن ثم أصبح «الصف» الذي يقيم فيه أبي محبباً، أطالع فيه أسماء من رحلوا من الكبار والصغار، وأسلم عليهم كل مرة، قبل أن أدخل مع أبي في حوار!. ثم سكنت أمي بجوار أبي فزادت الألفة، قبل أن ينضم العديد من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والعديد من الأهل والأصدقاء، ليتحول الشعور بالرهبة إلى شعور بالجلال.. سنة الحياة.. وحقيقة النهاية، وحجم المسافة الفاصلة بين الحياة والموت!. ها قد أصبحت الصفوف ملأى بقريب هنا، وصديق هناك، قبل أن تقرر العائلة إضافة مدفنين في الصف الجديد الذي يبدأ من الطريق الإسفلتي، وينتهي بحقول الذرة والقمح والبرسيم. في زيارتي الأخيرة، رحت أطالع أسماء آباء كتبوا وصاياهم على صفحات الغياب، لكنهم لم يطلبوا يوماً من الأبناء ثمن «الأبوة»!، وأمهات جميلات باسلات ضحين بأعمارهن ومضين في هدوء.. أعمام وأخوال يسكبون التراتيل، وعمات وخالات وأخوات يحيكون للقادمين ما أمكن من أغطية ومناديل!. تفر من فوق هذا القبر عصفورة شريدة، ومن الصف الخلفي قبرة طريدة، فيما ألمح سيدة قريبة، تمضي نحو قبر زوجها بخطوات كئيبة!. في الطريق الى مدفن العائلة الجديد، كنت أمضي منشغلاً بالسلامات والتلاوات، ومداراة دموعي، قبل أن تنتابني رهبة مباغتة!، خرج طفل من باب في الصف الآخر، ووضع وردة في يدي! ولأننا قرب ساعة الأصيل، ومازال بالإمكان التحديق في المكان، فقد اكتشفت أن أبنية الصف اليمين متناهية القصر هي بيوت للبشر الأحياء، لا يفصلها عن القبور سوى متر ونصف المتر!. نعم متر ونصف تفصل بين الحياة والموت، لكنني حين غادرت المكان اكتشفت أن المسافة أقصر من ذلك بكثير! ففي اليوم التالي، وحين كنت أخرج من جراج نقابة الصحفيين، وقبل صعود سلمها الشهير، ارتطمت ركبتي بحديدة مزروعة بطريقة عجيبة لأسقط على الأرض في إغماءة قصيرة.. ولأن المسافة بيني وبين السيارات المندفعة في شارع عبد الخالق ثروت كانت تقل عن متر واحد، فقد اندفع نحوي عدد من الصحفيين الشبان، حكوا لي بعد الإفاقة ما جرى وما كان!. في غرفة أشعة الرنين المغناطيسي المظلمة، اكتشفت أن المسافة تقل كثيراً عن نصف المتر.. كان صوت النقابي الأصيل حماد الرمحي يأتي ليطمئنني، ويحفزني للعمل، وكان وجه طفل قريتي يضيء بالأمل، فيما كانت يده ممدودة بالورد!.