أهداني الصديقُ معالي الدكتور السيد نزار عبيد مدني نسخة من كتابه القيِّم: (أوراق من الجعبة)، وهو الإصدار الذي دوَّن فيه معاليه عدداً كبيراً من رؤاه وخواطره وسوانحه التي اعتاد -كما يقول في مقدمته- على تدوينها في وريقات على مرِّ الشهور والسنين. وبعد الإبحار بين دفتي الكتاب وجدتُ أننا إزاء منهجية جديدة في الطرح الذي يلخص في سطور قليلة رأياً وفكراً متجدداً، يقود في نهاية مطافه إلى إضافات هامة في قاموسنا الفكري والثقافي. ويأتي هذا من خلال رجل دولة من طراز فريد، كثير الأفعال، قليل الأقوال، عُرف عنه نكرانه لذاته، وعمقه في كل ما يطرحه. ولا نستغرب ذلك من مسؤولٍ مثلهِ رأَسَ وفد بلاده إلى عدد من اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن ترؤسه للوفد في العديد من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إضافة إلى تمثيله بلاده في المحافل والمنظمات الدولية وفي مراسم تنصيب رؤساء بعض الدول، وهو الذي تم تعيينه عضواً في مجلس الشورى في دورته الأولى إلى أن صدر الأمر الملكي الكريم عام 2005م بتعيينه وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، وقد استمر في منصبه هذا حتى عام 2019م، ثم كرَّمه خادم الحرمين الشريفين بوشاح الملك عبدالعزيز من الطبقة الثانية لجهوده وإسهاماته ولما قدَّمه في خدمة وطنه. قسَّم المؤلف كتابه إلى سبعة فصول، وقد لفت نظري ما دوَّنه معاليه في الفصل الأول الخاص بالشأن الإسلامي، الذي اعتمد فيه على التحليل والتفكيك البنيوي لبعض النصوص وصولاً بالجانب الفكري إلى آماد بعيدة، بعمق عقلاني رزين.. وهو ما لمسناه في تفسيره لبعض المفردات التي وردت في القرآن الكريم.. والتي أخرجها المفهوم الجمعي عن سياقها المقصود. لقد استطاع المؤلف استهواء القارئ للبحث عن مزيد من الزاد المعرفي، خاصة عندما يطرح مفاهيم جديدة لمصطلحات كانت غائبةً معانيها عن الكثيرين، حيث يجسد رؤيته الناضجة عند وصفه مصطلح (الإسلام السياسي) ب»الخرافة التي أوشكت على الزوال، لأن الدين يقوم على اليقين المطلق أما الإسلام السياسي فهو مصطلح فرضه الغرب على المسلمين، بينما هناك مصطلح إسلامي هو (السياسة الشرعية)، والأولى أن يُقال (النظام السياسي الإسلامي) أو السياسة الإسلامية..». وفي الشأن السياسي يؤكد المؤلف أن المنطقة مقبلة على تغيرات جذرية في الهياكل السياسية القائمة في العالم العربي وستشهد تحالفات جديدة قد يصعب التعامل معها بشكل عقلاني.. اما الشأن المحلي فقد أبرز المؤلف فيه قدرة فائقة على التحليل والتنظير العقلاني مؤكداً على أن القضايا المحلية يجب أن تنال كل اهتمام من الصحافة.. دون أن نجعل من ذلك سبيلاً إلى انكفائنا على ذواتنا أو طريقاً إلى عزلتنا عما يدور حولنا من أمور وقضايا. وفي الشأن الخاص اصطف المؤلف مع الفلسفة الفكرية واضعاً إياها على مائدة السؤال الكبير (لماذا تخشى من الرأي المخالف والنقد الموضوعي.. ألا تعلم أن المناقشة والمناظرة هي الوسائل التي تقود إلى الحقيقة؟). وقد لاحظتُ تفرُّدَ المؤلف في اجتذاب قرائه حين حلّقتُ معه في بانوراما الشأن الدولي حيث استطاع من خلال هندسة فكرية عميقة أن يجسد الفكر العالمي أمام ناظرينا.. مستحثاً عزيمتنا على ضرورة النهوض وترك الجلوس على أرصفة التاريخ.. بمحاذاة طريق الحضارات مكتفين بالفرجة أو انتظار من يريد أن يمخر عباب الماضي ويتجه عكس التيار خلافا لعقارب الساعة.!! وكان مسك الختام في الفصلين الأخيرين اللذين استعرض فيهما المؤلف عددًا من المواعظ والحكم والأقوال المنسوبة التي تصلح مرجعاً توثيقياً يُستنار به في كثير من أمورنا الحياتية. لقد أكمل معالي الدكتور السيد نزار مدني بهذا السِّفر منظومة عِقده الفريد الذي تجسَّد في عدد من المؤلفات التي سبق أن أهداني نسخاً منها.. والتي ابتدأها ب(دبلوماسي من طيبة.. محطات في رحلة العمر)، و(قضايا ومواقف في الفكر والسياسة)، و(المستقبل.. تأملات استشرافية).. وغيرها من المؤلفات التي أحسبها إضافة ثمينة للمكتبتين العربية والسعودية.