المختصون والباحثون في تواريخ تأسيس البلدان أو الراصدون لنواحي التحولات فيها يؤكدون ان (الأمن) هو المحور الرئيس والأصيل في حياة الدول والشعوب وهو عمق أي تحول يحدث لها. وهذا يعتبر ركيزة عقدية مهمة دعا إليها الأسلام من خلال الآيات التي تحث على الأمن وحفظ الحقوق والدماء والأعراض، وكذلك من خلال الأحاديث النبوية (من بات آمنا في سربه..). وقد اهتم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بالأمن منذ وقت مبكر بعد اكتمال مراحل التأسيس وجعله هو همه الأساس وهو ما أدى إلى تحول في الحالة الأمنية أذهل العالم. الرؤية الأمنية للمؤسس كان يدرك الملك عبدالعزيز بأن صلاح البلاد والعباد هو في استتباب الأمن ولذلك كان تأكيده في بيانه الشهير الذي حرره في 8 جمادى الآخرة عام 1344ه «إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من النزعات والأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار فأني لا أراعي في هذا الباب صغيرا ولا كبيرا. ما قبل التحول الأمني والذي أدهش النقاد والباحثين والمتابعين هي تلك السرعة في التحول الأمني من الحالة العدمية إلى حالة الاستتباب المطلق. ويتحدث المؤرخون والكتاب عن حالة الفوضى والسرقة والنهب وقطع الطرق سواء فيما يكون في طرق قوافل الحجاج خاصة أو في الجزيرة العربية بصفة عامة. فيتحدث إبراهيم رفعت عن ذلك الأعرابي الذي قتل حاجا وعندما فتش في ثيابه لم يجد إلا ريالا واحدا وأخذه وهو يضحك ويقول بأن الريال أحسن منه. ويصف هو وغيره كيف كان يسير الناس جماعات ومعهم السلاح خوفا من السلب وقطاع الطرق. ويشير محمد طاهر كردي إلى النزاعات والفتن حتى في محيط الحرم المكي ويسقط قتلى وجرحى. سر التحول الأمني ويعيد المتابعون سر هذا التحول واستتباب الأمن إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ونشر العدل بين الناس ناهيك عن حاجة الناس إلى الأمن وهم الذين يشيعون تحت ضغط الخوف على الأرواح والممتلكات. يقول عباس متولي « استتباب الأمن بهذا الشكل لم يوجد إلا بعد تنفيذ قانون الله وإقامة حدود العليم الخبير. ويقول جورج انطونيوس « إن ابن سعود قد بدل شكل الحياة في غرب الجزيرة تبديلا أساسيا في نواحيها الخاصة والعامة بما أوجده من نظام للحكم وما ذهب إليه من فهم للواجبات المدنية والدينية». فيما أرجع إبراهيم المازني من أسرار التحول هو اهتمام الملك عبدالعزيز الشخصي والكبير في متابعة الحالة الأمنية ومن ذلك سيره بين القوافل وحركة الحجاج. الأمن أبرز المآثر يقول شكيب أرسلان « لو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال لكان ذلك كافيا في استجلاب القلوب واستنطاق الألسن في الثناء عليه». وقال أنطونيوس «لقد بطلت عادة الغزو بالفعل ولم تعد القبائل تعرف معنى الإتاوة وأصبح من النادر اليوم أن يتعرض أحد لمسافر أو أن يُسرق أو يُستثمر، وعم احترام نظم الأرياف والبوادي فتساوت في ذلك مع المدن». وكتب أبوالفتوح في جريدة الأهرام عام 1349 ه « قطع ابن سعود عشرات من رؤوس القتلة واللصوص وأنقذ بذلك رؤوس الألوف من حجاج بيت الله وغيرهم. الآن تسير الفتاة من طرف الجزيرة إلى طرفها الآخر تحمل الذهب فلا يتطلع إليها أحد، بل يرى الناس قطعة الذهب أو الفضة ملقاة على الأرض تسقط من بعض المارة فلا يقربونها وإنما يبلغون الشرطة، وهكذا فلا تضيع ذرة متاع إنسان في الحجاز أوغيره من شبه الجزيرة». صور أمنية نادرة وتحدث كثير من الكتاب والمثقفين عن صور من التحول الأمني واستتبابه المطلق ووقفوا كثيرا عند مشاهد الأسواق في كل مدن المملكة وما كان يفعله التجار على أبوابها من قطع قماش شفافه أو عصي أو كراسي ثم يمضون عنها ويعودون إليها فلا يمسها أحد. بل ويتعجبون مما يفعله الصيارفه من ترك أموالهم على الطاولات والصناديق وما عليها إلا قطع قماش ولا يقربها أحد. وأشار البعض إلى ما كانت تحفل به جريدة أم القرى من أخبار المفقودات ودعوة أصحابها إلى استلامها. قياسات أمنية فائقة تحدث بعض الكتاب عن ما تحقق من إنجاز أمني وقاسوه بما هو موجود في الكثير من دول العالم فوجدوه قد فاق تلك الدول، وهؤلاء لا يجاملون ولكنهم يقولون حقيقة مارأوا. يقول جورج انطونيوس «لا نبالغ إذا قلنا إن المملكة العربية السعودية قد بلغت في حفظ الأمن العام درجة تفوق كافة دول العالم ولا يستثنى من ذلك أعرقها حضارة «. ويقول شكيب ارسلان «إن هذا الأمن جعل من صحاري الحجاز وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوروبية «. وكان عبدالله فلبي يقف في مجلس الملك عبدالعزيز على العديد من الحوادث والوقائع التي كان يصل إليها الأمن في زمن قياسي ويبت فيها أيضا بسرعة. وقال المعتمد البريطاني في جدة خلال تلك الفترة «إن الأمن في الحجاز وسائرالجزيرة لامثيل له في بلد من بلدان العالم، الأمن لا مثيل له في أي قطر من أقطار الدنيا بدون استثناء». قصص أمنية مذهلة وساق البعض عددا من القصص التي تثير الدهشة في استتباب الأمن خصوصا إذا ما قسناها بالفترات التي سبقتها. ومن ذلك ما ذكره المعتمد البريطاني من أن قافلة من الجمال كانت تسير وعلى كل منها كيسان من البن وكيس مملؤة ريالات فضة فتاه منها جمل وظل تائها عدة أيام ولما وجد وجدت الأكياس لم ينقص منها ريال واحد ولم يمس البن بسوء. ومثل ذلك ذكر إبراهيم المازني من أن الجمال كانت تسير في قوافل وهي تحمل بضائع شتى في الصناديق والأكياس والغرائر وليس معها سوى طفل واحد هو كل حرس هذه القافلة. وأورد المازني قصة عصاه التي سقطت منه في ابرق الرغامة وهو في طريقه من جدة إلى مكة فلحقه بها مسؤول الشرطة في الشميسي وذكر أنها قطعت على الناس السبيل حتى يجدو صاحبها. وأورد شكيب أرسلان قصة عباءته الحساوية السوداء التي فقدها وهو في طرقه إلى الطائف وكان المارة يتجافون عنها حتى وصل خبرها إلى أمير الطائف فأرسل لها سيارة أتت بها وأعادها إلى أرسلان. ويقول عباس متولي في كتابه ( مشاهدات من الحجاز ) «بأن السيارة تعطلت بهم من مكة إلى المدينة فجأ أعرابي يطلب نقودا فتظاهرت بالثراء وفتحت جيبي فقلت خذ ما تريد فقال حرام عليك وما جنيت أتريد قطع يدي؟، لايابوي لا أطلب شيئا». حدث فذ وقد حظي هذا التحول الأمني القوي والسريع بإعجاب الكثيرين من مسؤولين وكتاب وغيرهم وكتبوا في ذلك مؤلفات سواء الكتاب العرب أو الغربيين وذلك في سياق الحديث عن شخصية الملك عبدالعزيز. يقول كنيث وليمز الذي ألف كتابا عن الملك عبدالعزيز عام 1933 م بأن «الملك عبدالعزيز هو حدث فذ في التاريخ». وأضاف « وقد لاحظ الرئيس روزفلت والمستر تشرشل من أول وهلة بأن الملك عبدالعزيز هو من أبرز رجال هذا العصر وحصن من حصون العالم الحديث».