أحيانًا كثيرة يتراءى للمجتمعات (العربية بخاصة) أن الثقافة معزوفة ترددها فئة هدفها أن ترسم للشعوب بريقًا وهاجًا وسرابًا خادعًا ما ينفك أن يظهر لهم أنه أوهى من خيوط العنكبوت، لا يحمي من الهجير ولا يقي من البرد، ولا يمنح الدنيا سلامًا ولا يهب البشرية طمأنينة وحبًّا، وقد جرّب العالم العربي أنواعًا شتى من طروحات المثقفين فألفاها تذيقه من ثمارها مرارًا ونتاجها علقمًا، وتشحنه تخريبًا وتقسيمًا وتشويهًا وتشويشًا؛ ولهذا ثارت الشعوب بأصوات مهموسة في وجوه المنظرين، كما ثارت في وجوه الكهان وحراق البخور، متلهفة للبديل الناجح والمنقذ الصالح. وفي مسارات الأنفاق المظلمة والأفكار المشوهة والخانات الفارغة، ولحظات القنوط جاءت معارض الكتب الدولية في جدة والرياض ودبي ومصر وغيرها، فألفينا الفرد العربي يقبل على الكتاب بنهم شراء وقراءة. فمن خلال اطلاعي على إحصاءات قدمها معرض جدة الدولي العام الماضي أيقنت أن الأمة لم تنجرف لمنازع المادة ومشاغل الحياة والاتكاء على تلقي المعلومات من الفضاء الفسيح أو من مقالات المثقفين وخطب الوعاظ؛ لأن معارض الكتب الدولية التي تقام كل عام بدأت ترسم ملامح أمل بأننا سنكون يومًا في مصاف الأمم الحية بعد أن بحّ صوت الشعوب استنجادًا بالساسة، وبعد أن تهاوى دور المثقف فلم يقوَ على انتشال الشعوب من مستنقع التخلف والجهالة، وبعد أن تراجع الخطاب الديني فحشر المجتمعات في مربعات فئوية ضيقة تتطارح، وتدير المعارك حول الخلاف في حكم التصفيق ولبس الخاتم والتيمن في لبس الساعة!. إن القوة الشرائية التي تشهدها معارض الكتب وبخاصة معرضي جدة والرياض الدوليين تبشر بالعودة للقراءة وتكريسها في عقول الجيل؛ لأن الكتاب وهو الذي يصنع الفكر الواعي ويجعل قارئه يضغط في اتجاه الخطأ رافضًا وجوده محاربًا استمراره عاملاً على تنظيف سلوكيات المجتمع منه دون وصاية أو فرض فكر أو رأي، والفرصة مواتية اليوم ونحن نشهد افتتاح معرض جدة الدولي للكتاب أن ندرك أن لدينا إنسانًا قارئًا قادرًا على الانتقاء، ونتدارك ما كان ينقص بناء هذا الإنسان وهي القراءة المعرفية، وهذه لها تبعاتها ومناهجها وآليات تفعيلها. وفي المقابل فإن المسؤولية تتضاعف اليوم على القارئ الحصيف الواعي لما يقرأ ويقتني بعد أن تهاوت كل الخطابات الانفعالية والنخبوية التي تزعمت زمنًا وأخفت خلفها محاولات الاطلاع والمعرفة وحجبت عن الجيل فرصة النهل من معين المعلومة الأصيل. إن معارض الكتب تستطيع أن تعيد الأمة إلى قراءة ثقافتها بنفسها دون وصاية وكشف حقيقة كنوزها ومراجعها المعرفية دون فلسفات وإملاءات، وتستطيع أن تمنح القارئ قدرة على نفض غبار التشويه وغبش الرؤية وطلاسم الظلمة عن كل موروث، وتلجم كل من يتشدق بخطب رنانة وألفاظ طنانة، وكأنه القارئ ولا أحد سواه.. المعارض وحدها هي التي تتيح للقارئ العربي أن يختار ما يقرأ، دون أن نفرض عليه مقولات ماركس وكانط وبروسو وهيغل أو نصوص ابن حزم والغزالي وقطب وغيرهم.. وألقاكم.