* عندما سُئل الشاعر العميق بشار بن بُرد عن سبب جنوحه ذات ليلة (جائعة) إلى الهشاشة والسطحية، (متخرفناً) ومتغزلاً بدجاجات رباب (جارته الأمية)، في البيتين الشهيرين (ربابٌ ربّةُ البيت... تصب الخل في الزيت/ لها عشر دجاجات... وديك حسن الصوت) أجاب: والله إنها عندها أهم من مُعلَّقة (قِفا نبكِ)!!.. وهو جواب رغم ظرافته، إلا أن به اعترافاً ضمنياً بالهبوط - تحت وطأة (الجوع) - إلى حياض (الشعبوية) في محاولة لاسترضاء برجوازية (صاحبة الدجاجات) بخطاب على (قد فهمها)، طمعاً في دجاجة مقلية في الزيت، وبعض الخل! * تعِنُّ في خاطري حكاية انكسار بشار أمام دجاجات جارته، كلما قرأت مقالاً لبعض مثقفينا وأدبائنا الذين يبدو أنهم انهزموا نفس الهزيمة، حين تخلوا عن كل أدوارهم التنويرية المفترضة، واتجهوا نحو (الشعبوية الثقافية) بمقالات لا تقدم للقارئ شيئاً، غير دغدغة عواطفه، وتجييش مشاعره، وإعادة بيع مشاكله عليه من جديد، وكأنما يريدون إبقاءه في نفس الدائرة العمياء والمتشنجة! * وإذا كنا نجد بعض العذر لبشار وهو الفقير الفاقد للبصر، الذي كان يتعمد (اللطافة والظرف) طمعاً في تعاطف الناس مع ظروفه الاجتماعية، فإنني لا أجد أي عذر (لربعنا) الذين يتخذون من الكتابة الصحافية مهنة إضافية للتربح، ومع هذا يتجاهلون كل واجباتهم الفكرية والثقافية التي ما استُكتبوا إلا من أجلها، وينافقون التيارات الجماهيرية، فيكتبون حيناً عن غلاء (الخس والبامية ولفائف الجرجير) وأحياناً أخرى يملأون بياض أعمدتهم ب(حش) المؤسسات الحكومية، في لغة تستصرخ عواطف القارئ، وتستجدي قراءته و(ريتويتاته)، طمعاً في (دجاجة سمينة مقلية) كدجاجات السيدة (رباب) التي لم تكن بحاجة للثناء والمسايرة قدر حاجتها للتنوير والتوعية والتثقيف!. * قدر المثقف الحقيقي السير عكس التيارات السائدة.. وانحناء مثقفي أي مجتمع أمام عواصف المال، ورغبات الجماهير، وضغوطات الحياة هي أكبر هزيمة لذلك المجتمع، خصوصاً إن كان الثمن مجرد دجاجة.