الوطن جوهرةٌ في الفؤاد، ودرَّةٌ ثمينةٌ في الوجدان، وشامةٌ على الجبين، وقطعةٌ من الرُّوح، ومضغةٌ من القلب، تتنفَّس النَّفسُ بهوائه العليل، وتستظلُّ بظلاله الوارف، وتنعم فيه بالأمن والأمان وراحة البال، وترتسم على ترابه ملامح الطُّفولة الجميلة، والذِّكريات العذبة الباسمة، التي يتشكَّل منها كيان الإنسان وملامح فكره وثقافته وعارفه المكتسبة، وأنوار معرفته وعلومه التي اكتسبها منذ نعومة أظفاره، وهو على مدراج المعرفة، وميدان الطَّلب والتَّحصيل، ومرابع التَّكوين الفكري، والسَّعي إلى اكتساب ما يؤهِّل إلى الوعي المنشود الذي أدرك قيمة الوطن في كل الملامح والأماكن التي عشق فيها تراب الوطن، وهواءه، وسهوله، وجباله، وكل ذرَّة على ثرى هذا الوطن المعطاء، الذي امتلك قيمةً ومكانةً لا تضاهى بقدرٍ من رب الأرباب وفاطر الأرض والسَّماوات، تلك هي المكانة السَّامقة لأرض الحرمين الشَّريفين ومهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم في كلِّ أرجاء المعمورة، إذ انبعث منها النُّور، وصدحت كلمة الإيمان، وتنزَّل بها الذِّكر الحكيم على سيِّد المرسلين وخاتم النَّبيِّين صلوات الله وسلامه عليه، وتعلَّقت القلوب بأرض القداسة منذ أشرق فجر الإسلام، وتعطَّرت القيم بمكارم الأخلاق التي تمَّمها وهذَّبها الإسلام، حتى ارتسمت أبدع صورة تأمَّلتها البشريَّة، وتأمَّلها الشَّرق والغرب، واشرأبَّت إليها أعناق الأصدقاء والأعداء فأذهلتهم، وما رأوا لها مثيلًا، فانطلقت شهاداتهم التي دوَّنها التَّاريخ، وملأت أسماع الكون، ووقرت في قلوب المنصفين، ولم يماروا في نصاعتها ووضوحها كوضوح الشَّمس في رابعة النَّهار. الوطن في وجدان كلِّ محب ليس مجرَّد بقعة جغرافية، بل هو المكان والإنسان، والمكانة، والسِّيرة الفوَّاحة التي سجَّلها التَّاريخ منذ قرون بعيدة، وأزمان موغلة في القدم، وصدق القائل حين قال: ما أنتَ يا وطني مُجَرَّدُ طينةٍ فأَصُوغُها لطفولتي تَذْكاَراَ حاشاَ .. ولستَ بِبُقْعَةٍ مربوطةٍ قَيْدَ المكانِ أقيسُها أمتاراَ بَلْ أنتَ يا وطني مدَى حُرِّيَّتي في الأرضِ حين أعيشُها أفكاراَ ! وكيف إذا كانت القيمة السَّامقة تعانق السَّماء، وتسكن الأعماق، وتحتضنها قلوب المحبِّين لهذا الوطن المعطاء في كل الأرجاء، فغدًا أنشودةً في فم الشَّاعر المحب لوطنه، العاشق لترابه، وتراثه، وتاريخه، يقول الشَّاعر صالح الهنيدي: وَطَنِي.. وَهَبْتُكَ خَافِقًا وَلْهَانًا وَنَشَرْتُ فَوقَ جَبِينِكَ الأَوْزَانَا (أَفَلَا أُحِبُّكَ) والمَبَادِئُ كُلُّهَا تَجْرِي إِلَيكَ عَلَى المَدَى جَرَيَانَا؟ (أَفَلَا أُحِبُّكَ) والعَقِيدَةُ وَالهُدَى مَلَأَتْ فُؤَادَكَ حِكْمَةً وَبَيَانَا؟ أَسْرَجْتَ لِلإِسْلَامِ خَيْلَ عَزِيمَةٍ صَارَتْ لَهُ سُبُلُ الهُدَى مَيْدَانَا وإذا كان الوطن رمزًا للحب والوفاء، ونبراسًا للكرم والعطاء فإنَّه على علوِّ مكانته يرسم لوحةً مضيئةً في وجدان الشَّاعر، يقرأها المحب بكل عناوين الولاء والانتماء المتجذِّر في الأعماق، هكذا ارتسمت تلك اللَّوحة المشرقة في شعر شاعر الجنوب ابراهيم مفتاح، وهو يفصح عمَّا في وجدانه: وَطَنِي .. سَأَبْحَثُ عَنْ بَحْرٍ وَقَافِيَةٍ وَلَونُ طَيْفٍ بُرُؤْيَاهُ تُكَحِّلُنِي وَطَنِي.. سَأَبْحَثُ عَنْ لَحْنٍ أُغَازِلُهُ وَأَثْمَلُ فِي سَنَا عَيْنَيْكِ تَغْزِلُنِي يَا مَهْبِطَ الوَحْي (تَبَّتْ) كُلُّ آثِمَةٍ مِنَ الرَّزَايَا، وَتَبَّتْ نَفْسُ كُلِّ دَنِي وَطَنِي.. يَذُوبُ الهُوى فِي كَاحِلِي لُغَةً وَبَينَ جَنْبَيَّ فِي صَحْوِي وَفِي وَسَنِي مَا زِلْتَ شَمْسًا إِذَا كُلُّ الشُّمُوسِ غَفَتْ وَأَنْجُمًا فِي لَيَالِي التِّيهِ تُرْشِدُنِي وما أجمل أن يطلَّ الأديب من نافذة المجد فيرى ذلك الوطن المتوشِّح بتاج الرٌّقيِّ وبردة الإعمار والنَّماء، وقد جال بخاطره بين مكة مهبط الوحي، وبين طيبة منارة الإسلام الأولى، وقد تعانقتا وشع الهدى منهما إلى العالم كله، يقول عيسى جرابا: وَطَنِي وَلِلأَلَقِ المُهِيبِ حِكَايَةً تَرْوِي حَوَادِثُهَا لِسَانَ الغَارِ مَا بَينَ (مَكَّة) مَهْبطُ الوَحْي الأَمِي نِ وَبينَ (طَيْبَة) رَحْمةُ الأَقْدَارِ لمَّا تَعَانَقَتَا، وَقَد جَمَعَ الهُدَى قَلْبيهُمَا (شَعَّا) بِلَا إِقْتَارِ يَا أَيُّها الوَطَنُ المُضَمَّخُ بِالسَّنَا مَا أَنْتَ إلَّا فَخْرُ كُلِّ فَخَارِ سِرْ وَاثِقَ الخُطُواتِ فِي عَينِ الدُّجَى وَلَو اسْتَحَالَ كَجَحْفَلٍ جَرَّارِ