الانتماء إلى الوطن يتركَّز حول معان كثيرة لا حصر لها، ومنها الولاء، والإخلاص، والانتساب بصدق إلى ما يهفو إليه الإنسان وينجذب إليه، وهو دأب الشُّرفاء منذ الأزل، جُبلوا على ذلك، وفُطروا عليه، وتعلَّقت قلوبهم بذلك المكان منذ أن أبصرت عيونهم النُّور. كّمْ مَنْزِلٍ في الأَرْضِ يَأْلَفُهُ الفَتَى وحَنِينُهُ أَبَدَاً لِأَوْلِ منْزِلِ فالوطن مضغةٌ من القلب، لأنَّه مسقط الرأس، درج الإنسان على ترابه، واستنشق هواءه، وعشق نسماته العليلة، ورياضه الأخَّاذة، فانغرس ذلك في قلوب النَّاس وطبائعهم مهما ابتعدوا عنه أو فارقوه. مَا أَنْتَ يَا وَطَنِي مجرَّد طِينَةٍ فأَصُوغُها لِطُفُولَتِي تِذْكَارَا حَاشَا.. ولَسْتَ بِبُقْعَةٍ مَرْبُوطةٍ قَيْدَ المَكَانِ أَقِيسُها أَمْتَارَا بَلْ أنْتَ يَا وَطَنِي مَدَى حُرِّيَّتي في الأَرْضِ حِينَ أعيشُها أفكارَا وإذا كان الوطن رمزاً للحبِّ والوفاء، ونبراساً للكرم والعطاء فإنَّه على علوِّ مكانته وعظم قيمته يسكن الأعماق، وتحتضنه الأفئدة، وهو ما أفصح عنه الشَّاعر صالح الهنيدي الذي عبَّر عن حبه لوطنه «أرض الحرمين» و»مهبط الوحي» يقول: وَطَنِي .. وهَبْتُكَ خَافِقاً وَلْهَانَا ونَشَرْتُ فوقَ جَبِيْنِكَ الأوْزَانَا وَطَنِي .. بَذَرْتُكَ في الفُؤادِ مَحَبَّةً فَنَبَتَّ في أقصَى الجّوَى شِرْيَانا « أَفَلَا أُحِبُّكَ « وَالَمَبادِئ كُلَّها تَجْرِي إِلَيْكَ عَلَى المَدَى جَرَيَانَا؟ « أَفَلَا أُحِبُّكَ « والعَقِيدَةُ والهُدَى مَلَأتْ فُؤَادَكَ حِكْمَةٍ وَبَيَانَا؟ أَسْرَجْتَ لِلإِسْلَامِ خَيْلَ عَزِيْمَةِ صَارَتْ لَهُ سُبُلُ الهُدَى ميدَانَا ومسيرة الأمجاد والفخار لأرض الحرمين يصعب حصرها، ويحتار الشاعر ماذا يختار من تلك المناقب والخصال الجميلة، ومن أين يبدأ حديثه عن وطنه المحبوب، وهو ما أفصح عنه الشَّاعر د. عبد الرحمن العشماوي في قوله: مِنْ أَيْنَ أَبْتدِئُ الحَدِيثَ عَنِ الوَطَنْ؟ ولِمَنْ أَصُوغُ حِكَايَةَ الذكرَى، لِمَنْ؟ مِنْ أَيْنَ، والأَمْجَادُ تُشْرِقُ في دَمِي نُورَاً مِنْ الذِّكْرَى، وتَخْتَصِرُ الزَمَنْ؟ مِنْ أَيْنَ، والإِيمانُ يَجْرِي نهْرَهُ عَذْباً، ويَغْسِلُ عَنْ مَشَاعِرِنَا الدَّرَنْ؟ قَالُوا: ابتَدِئ مِن وَصْفِ «مَكَّةَ» إنَّها صَدْرٌ حَوَى نُورَ الهِدَايَةِ واطْمَأَنْ ابْدَأْ مِنْ البَيْتِ العَتيقِ فإنَّه سَكَنٌ لِمَنْ لَمْ يَلْقَ في الدُّنْيَا سَكَنْ وينثر قلائده الثَّمينة على جبين وطنه المعطاء، الذي لا يُضاهيه وطن، ولا يماثله في علو المكانة غيره من البلدان؛ كيف لا؟ وهو أرض الحرمين، ومهبط الوحي، ومن على أرضه سرت أنوار الدَّعوة إلى شتى الأصقاع، يقول: هي مَهْبِطُ القرآنِ تحت لوائه سَارَتْ بِعَونِ اللهِ تَجْتَازُ المِحَنْ نشأتْ على هَدْي الإله فرُوحُها تَسْمُو بها، وبروحها يَسمُو البَدَنْ وسَمَا بها الإسلامُ عن بِدَع الهوى والشِّركِ، والقولِ الرَّخيصِ المُمْتَهَنْ تَتْلُو كِتَابَ اللهِ، ترفَعُ رأسَها بالدِّين عن سُبُلِ الغِوايَة والعَفَنْ وهي المفاخر التي تُفاخر بها بلاد الحرمين، وتحتلُّ لأجلها أعظمَ مكانة في قلوب المسلمين، فهي عقدٌ مرصَّع بالثَّوابت والقيم والأمن والإيمان، وهي «وطنُ الشُّموخ» الذي أينعت ثماره في كل أرجاء الأرض، يقول الشَّاعر عيسى جرابا : فاشْمَخْ أَيَا وَطَنِي شُمُوخَ البَاسِقَا تِ، وقد تدَلَّى يانِعَ الأثَمارِ أَهْوَاكَ يَا وَطَنِي يُرَدِّدُهَا فَمِي وتُعِيدُهَا بَيْنَ الوَرَى أَشْعَارِي اللهم أدم نعمة الأمن والإيمان على بلد التَّوحيد، واحرسه من كيد الحاسدين وأهواء أهل الفتن الماكرين.