عندما قامت الثورة الدموية البلشفية في روسيا وازداد عنفها وقوي جهازها العسكري وهابها الأوروبيون بدأ الغرب ينظر إلى الأمة الروسية والمارد الروسي وبدأ بالاطلاع على مصادر ثقافته وفكره وعاداته وأخذ ينقل ثقافته القديمة, وفي هذه الفترة زادت معرفة الناس بكبار الكتاب الروس الذين عاشوا في عهد القياصرة ومنهم نيكولاي جوجول والكسندر بوشكين وكارامزين صاحب تاريخ الدولة الروسية وتولستوي صاحب الحرب والسلام ودستويفسكي صاحب الإخوة كارامازوف وتورجنيف صاحب رودين , وأقبل الادباء يترجمون إلى ادبهم درر الأدب الروسي وتبارى النقاد في نقد تلك الروايات والاهتمام بها والمفاضلة بينها وبين كتابها, وجدير بالذكر ان الثلاثة الكبار من كتاب الروس كانوا بحق وحقيقة يفضلون ويتفوقون على كتاب القصة الأوروبية بل وكتاب القصة في العالم بأسره, وأقصد بالثلاثة الكبار في ميدان القصة إيفان تورجنيف وفيدور دستويفسكي وليوتولستوي وقد كتبوا قصصاً بلغت حد الذروة من الاتقان الأدبي, وانك لتقارن بين ما كتبه دستويفسكي وبين ماكتبه ديكنز وبلزاك وجورج اليوت والفونس دوديه وثاكري وغيرهم فتجد ان دستويفسكي يفوقهم متفرقين ومجتمعين, وحديثنا اليوم عن جوجول, وليس هو اعظم كتاب الروس بل هو دون الثلاثة الكبار ولكن له فضل الريادة في ميدان الأدب, ذلك لأنه متقدم وكان رائداً في كتابة المسرحية وقد اشتهر جوجول بين قراء العربية شهرة كبيرة وذلك عن طريق مسرحية المفتش ومسرحية المفتش تتحدث عن شاب رفيع من شباب سان بطرسبرج اراد ان يذهب إلى قريته لقضاء اجازته السنوية وفي طريقه عرج على قرية أخرى ليرتاح فيها وتتعثر اموره المالية ويضيق ذرعا بالفواتير الملتهبة التي تربو على ما يملك وذلك لقاء طعامه وشرابه وهنا يبتسم الحظ له فيحسبه الناس مفتشا جاء من قبل إدارة سان بطبرسبرج. وهو مع ذلك يسكت عن سوء الفهم هذا ويفرح به وتمر المفارقات المضحكة بينه وبين موظفي الإدارة هناك, وتتجلى مقدرة جوجول على الاضحاك والسخرية ولكنه كما يقول المتنبي ضحك كالبكا, وهو بين الابتسامات يوجه السهم تلو السهم نحو الفساد الإداري والسياسي الذي كان يرى انه قد استشرى في البلاد, ولا تمانع دور النشر في نشرها بل إن القيصر نقولا الأول الذي خلف أخاه القيصر الكسندر الأول على حكم البلاد، يحضر بنفسه تمثيل مسرحية المفتش مع علم حاشيته ان المسرحية تسدد سهامها على الجهاز الإداري في روسيا كلها. وقد ولد جوجول في أوكرانيا سنة 1809م وكانت سنة ولادته سنة عصيبة, فقد سبقت ولادته المعركة الأولى بين القيصر ونابليون, وبعد معاهدة تيلست يولد جوجول, وينشأ جوجول في طفولته على قصص الحرب والشجاعة والفروسية التي أبداها المقاتلون الروس في صد حملات نابليون بونابرت, ثم لا يلبث ان ينتفض الروس ويقاتلون نابليون في معركة اخرى, ويعين القيصر قائده الشهير كوتوتزف الذي يستميت في القتال والتخطيط والتدبير والمكيدة حتى استطاع ان يذيق نابليون آلام الهزيمة, فينشأ جوجول في هذه البيئة ويستعين بها كثيرا في أدبه, أما والده فهو فلاح وصاحب قطعة متواضعة من الأرض يملكها وقد نشأ محبا للثقافة والعلم والاطلاع وما ان بلغ ريعان الشباب حتى بدأ يحس برغبة في الكتابة الأدبية وكان شابا نزقا وكان يصرح في تلك الفترة ببغضه للألمان, وقد ساعده بغضه للألمان في انشاء قصة سماها شلر وهو اسم الشاعر الألماني الكبير فردريك فون شيلر فقد مقت في الشخصية الألمانية حب النظام, وقد بالغت له نظرته في تصوير الشخصية تصويرا مفزعا فقد قرر في أقصوصته تلك ان شلر الألماني قد قطع انفه لئلا يحتاج إلى نشوق وذلك من فرط بخله وانه عندما كان يضيف الفلفل في طعامه فإنه من فرط حبه للدقة يحتاج إلى ميزان صغير كي يزن الفلفل ليضعه في الطعام. واستمر جوجول في انتاجه ومحاولاته وقد سيطرت عليه فكرة لازمته بعد ذلك طيلة حياته وهي فرط الثقة بنفسه فألف مجموعة من القصص وطبعها وذهب بها إلى دور النشر فلم تلاق رواجا ولم تعد عليه إلا بالحسرة وخيبة الأمل, وعندما بلغ الثانية والعشرين من عمره امتشق قلمه وكتب رائعته العظيمة أمسيات في مزرعة قرب قرية ديكانكا ومن حسن الحظ ان هذه المجموعة قد ترجمت إلى اللغة العربية وهذا يستدرجني للقول ان جوجول محظوظ في اللغة العربية فجميع قصصه ومسرحياته قد ترجمت إلى العربية ماعدا قصته ميرجورود فقد ترجمت له المعطف وأرواح ميتة والمفتش وقد تناول في مجموعة أمسيات في مزرعة الحياة الريفية والقروية في أوكرانيا فوصف طبيعة أوكرانيا الخلابة وجمالها وتناول عاداتها الاجتماعية وعاداتها الفكرية وتناول أيضا أطعمتها وألبستها وأنهارها وجبالها في اسلوب عذب جميل, وقد كانت بعض الصور ساخرة مضحكة وقد قابله شاعر الروس الشهير بوشكين الذي انعقدت بينه وبين جوجول صداقة حميمة, قال له بوشكين ان قصصه مبتسمة جدا فما كان من جوجول إلا ان ناول بوشكين قصة جديدة هي سيرجورود وما ان قرأها حتى آمن ان جوجول يستطيع تصوير الحياة بلونيها. 2 وتوجه بعد ذلك الى خارج روسيا فقضى جزءا كبيرا من عمره خارج الوطن تارة في باريس وتارة في سويسرا ثم مكث فترة طويلة في روما, ثم رجع وحدثه صديقه بوشكين عن مفارقة حصلت للشاعر حيث ظنوه مفتشا حكومياً فأوصى ذلك لجوجول بمسرحية المفتش. ثم بدأ جوجول اعظم اعماله الأدبية التي لم يمهل العمر لإكمالها إذ بدأ كتابة قصته أرواح ميتة , وقد أراد الكاتب ان تكون هذه القصة ملحمة للشعب الروسي وتصور الظلم الذي تعرض له,وقد قضى الكاتب ثماني سنوات بين عامي 834 1842 في اكمال القسم الأول منها ثم قضى عشر سنوات في اتمام القسم الثاني وتوفي سنة 1852 قبل اتمام الجزء الثالث من الرواية,تبدأ قصة أرواح ميتة في مدينة موسكو حيث يصل رجل يلبس ملابس اهل اليسار والغني, ثم ما نلبث ان نرى هذا الرجل غريبا في مسلكه يؤثر السرية ومعه خدمة وحشمة تتوقف عربته عند احد الفنادق ثم ينزل ضيفا على ذلك الفندق وما يلبث ان يصبح فلا يضيع وقته بل يستثمر كل دقيقة بالاتصال برجال الأمر والنهي في موسكو فتارة يقابل رئيس الشرطة وتارة رئيس الضرائب وقس على ذلك, ونعلم في منتصف القصة ان بطل القصة القادم إلى موسكو كان رجلا من مأموري الضرائب ثم سولت له نفسه ان يتلاعب بعمله في سبيل مصلحته الشخصية فيحقق معه ثم يطرد من الخدمة الحكومية واسمه شيشيكوف, ثم يتعرف على كبار ملاك العبيد من أمثال مانيلوف ونوزدريف وسوباكفيتش فيدعونه إلى مزارعهم, ويتوجه بعد أيام لزيارة مانيلوف ويسرف مانيلوف في الحفاوة به والثناء على ذكائه. ويصارح شيشيكوف صاحبه بطلبه, ويسأله عن عدد العبيد الذين ماتوا فيجيبه ويطلب شيشكوف من مانيلوف ان يبيعه العبيد الذين ماتوا فيستغرب مانيلوف, فيقول شيشيكوف: بعني اسماءهم فقط ولا تبلغ السلطات بموتهم وهنا تتضح لمانيلوف فكرة شيشيكوف, انه يشتري اسماء كاذبة ويدفع مقابلها مالا, ويستفيد من ذلك برهنهم عند المصارف ويقبض مقابلهم كما لو كانوا احياء, وهذه خلاصة فكرة القصة. وهنا يعرف مانيلوف ان لا خطر البتة من هذا الأمر وانه يستطيع ان يوافق على الصفقة, وفي طريقه الى الرجل الثاني يخطىء في الاتجاه فيضطرون إلى النزول في ضيعة الثرية كروبوتشكا وهنا يصور الكاتب الثرية صورة مختلفة فعلى عكس مانيلوف الذي يتظاهر بالغنى والكرم فإن هذه العجوز الثرية تسرف في التشكي من الفقر وغدر الزمان وتضن على ضيوفها من امثال شيشيكوف بقطعة خبز, وهي تخبر شيشيكوف انه عليه ان يذهب الى اقرب حانة للأكل لأنها لن تطعمه, ولكنه يعرض عليها الأمر فيسيل لعاب الثرية وتقتنع وتوافق على موضوعه ثم يذهب بعد ذلك الى نوزدريف, وهنا يتظاهر نوزدريف بالصلاح والتقى ويهاجم شيشيكوف ويقدس الفضيلة ويحارب الرذيلة ببيانه الخلاب ولكننا لا ننتهي من قراءة هذا الفصل من الرواية حتى نرى سوء المصير الذي يصل إليه نوزدريف, فإن نوزدريف يقبض عليه من قبل رجال الشرطة بتهمة قتل رجل مخمور, ثم يذهب بعد ذلك الى سوباكيفتش وتستمر احداث القصة التي لم يمهل القدر جوجول لإكمالها, وقيمة الرواية تكمن في وصف حياة الروس وتحليل ووصف بعض الشخصيات في القصة,ومكانة جوجول في القصة الروسية لا شك فيها إلا انني اذهب الى ان الرجل تنقصه كثير من المهارات القصصية فهو كثيرا مايعاني من ضعف إحكام العقدة فتراها مفككة في كثير من الاحيان مما حدا بكثير من النقاد ان يؤخروه عن بقية العظام من كتاب الروس.