هل كانت تعرف تلك العرافة حقا مصيره الحتمي؟ حينما همست في أذنه: ستموت يا بني وأنت في السابعة والثلاثين. على حصان أبيض أو على يد شخص أبيض أو في بلاد بيضاء.. انتفض بوشكين وهلل باستخفاف: الموت في سن مبكرة، هذا امتياز لن أحظى به، فلست فارسا ولا مغامرا ولا.. ثم شرد يفكر في الأشخاص الذين عرفهم وماتوا.. وأضاف: يا للهول! أنت أيتها المحتالة، تعرفين كيف تتلاعبين بعواطف الآخرين: ناولها روبلا يا صديقي، أخشى أن تكون صادقة! قهقه ومضى.. كانت الرصاصة مدورة، مقدمتها ضخمة، وبطيئة، كريهة وغادرة ولا تحتمل. ستستقر على مقربة من الحوض، ستمزق الموضع محدثة ثقبا بحجم نصف بنس، ستقص المائل السفلي، فاصلة العظم الحرقفي، مخترقة الأمعاء، ومفتتة منطقة العجز. حينها سينهار بوشكين، على بطنه فوق الثلج. سيتبدد ضباب الفجر مفسحا لضوء الصباح. سيهب الشاهد الفيكونت أوليفيي دارشياك الملحق بسفارة فرنسا ببترسبورغ في سنة 1837 لمعاينة وضع الشاعر الغارق في دمائه القرمزية الساخنة. قال بوشكين، باللغة الفرنسية، متأوها «أعتقد أن فخذي قد كسر»، قبالته كان الملازم أول الأنتيسي واقفا واجما، يده ما زالت ممدودة بالمسدس. حينها همس بوشكين «انتظر! أشعر أنني ما زلت قادرا على إطلاق النار!». يلتقط سلاحه عبارة عن مسدس طويل، بعقب من الجوز مخطط بأخاديد دقيقة. يتخذ وضع التصويب في اتجاه الشاب الشاحب والأنيق. يتراجع خطوة متحملا الآلام التي تحش نصفه السفلي. يضم ذراعه إلى موضع قلبه لحمايته، ثم ينتظر. اشتهر بوشكين بأنه مسدد بارع، ولن يخفق هذه المرة. هل هذه هي نهاية الأنتيسي الشاب الفاتن عشيق النساء، وفارس الخيالة المتبنى من طرف وزير الإمبراطور. سيصوب بوشكين، يأخذ وقته الكافي، ستمر الدقيقتان، المخصصتان من قبل الشهود وحسب الأصول. ثم سيطلق بوشكين النار. تخترق الرصاصة الذراع اليمنى للشاب نافذة إلى الضلع الخامس محدثة صدمة قوية في جسد الشاب، يسقط على أثرها أرضا. يصيح بوشكين «برافو» ثم يسقط سلاحه متسائلا: «هل قتلته؟» يجيب الفيكونت: «لا»، وسرعان ما هب الأنتيسي واقفا، ينفض ملابسه. أوقف زر بزة الحرس المعدنية الرصاصة، لكن قوتها كسرت ضلعين فقط، هذا كل شيء. أحس بوشكين، وهو يسمع التقرير، بخيبة أمل، ضاعت الفرصة: « خيل إلي أن الأمر سيجعلني سعيدا» سيقرر على الفور مبارزة أخرى، لكن حالته كانت تستدعي الإسراع بنقله ومعالجته. سيمر بوشكين فوق المحمل بجانب غريمه الشارد، تتخبطه الأفكار. سيلقي بوشكين نظرة مخدرة إلى وجه هذا الشاب الجميل كالشمس الفاتنة والقاتلة. تستبد بجسد بوشكين رعشة خاسفة ثم سيغمى عليه. يوصي الأطباء بتنظيف الجرح وتعقيم موضعه. يمكث مستلقيا وسط مكتبته فريسة لآلام لا تطاق. يقاوم بوشكين يومين آخرين. وفي النهاية، عندما سيغير أصدقاؤه وضعية جسده سيسمعونه يقول: «أحس بشيء يسحقني، إنها النهاية!» يموت بوشكين وهو في السابعة والثلاثين. هل مات الشاعر؟ انتشر هذا السؤال المرعب، بين أقاليم روسيا جميعها، كالنار في الهشيم. لا أحد يريد تصديق الخبر. روسيا جميعها تبكي الشاعر. روسيا حزينة. عشرة آلاف شخص، النبلاء والبورجوازيون والدبلوماسيون والطلاب.. كانت تندفع دامعة لتكريمه. ينقل نعشه ليلا تفاديا لاضطرابات محتملة. كانت الجماهير تنعت أنتيس بالمجرم وتتوعده بالإعدام. ولد الكسندر بوشكين في عام 1799، بين أعمال فولتير ومونتسكيو، الكتب الأساسية في جميع بيوت القرن الروسي العظيم. والده هو سيرج ليفوفيتش الذي كان مستشارا عسكريا، كانت هذه الأسر الروسية تفضل حياة الترفيه والمتع المحظورة. سيعلم بوشكين فيما بعد أنه من جهة أمه يعتبر وريث أبراهام هنيبعل الزنجي المفضل لدى الإمبراطور بيير الأكبر. دماء زنجية في أسرة بوشكين؟ سيعاني بوشكين طوال حياته من هذا النسب الإفريقي. كانت والدته ناديجدا أويبوفنا تراه قبيحا، مجعد الشعر، أفطس الأنف، بشفاه سميكة. كما كان رفاقه يسخرونه منه خلسة وينعتونه ب «القرد». سيرج لفوفيتش ونادجيدا أوسيبوفنا سيتركان تربية هذا الطفل لمربية خاصة. كانت هذه المرأة شلالا منقطع النظير من الحكايات. ستحكي لألكسندر فلوكلور روسيا كلها: الأبطال الملحميون. الساحرات المحلقات على متن المكانس، وهي تلقي بنار عجيبة. تحكي له عن جحيم سيبيريا.. والقيصر بوريس غودوموف المختنق وسط دمه، في حين أن أجراس روسيا العظيمة تقرع حزنها الرهيب.. ومن هنا تعلق بوشكين بالقصص، فالتهم لافونتين وموليير وبومارشي وأيضا ستيرن، الذي سيكتشف لديه أسلوبا ساخرا لاذعا. في عمر الحادية عشرة سيكتب القصائد، وفي سن الثالثة عشرة سيتأنق ويتعطر ويختلط بأوساط الكبار. سيحظى باختياره ضمن الثانوية الإمبراطورية الأولى بسارسكويي سيلو القريبة من سانت بيترسبورغ. سيتعلم معارف عديدة، لكنه لن يتفوق إلا في الرقص والمسايفة، بينما في المواد العلمية، فكان بحسب ملاحظات معلميه تلميذا متواضعا، غير أن ملاحظة أحد أساتذته كانت متنبئة بمصيره الأدبي، بحيث سجل عنه سنة 1816 ما يلي: «إن الطموح الأسمى والنهائي لدى بوشكين هو التألق في مجال الشعر». عكف بوشكين المراهق على قراءة فولتير الذي كان مفتونا بشخصيته وكتاباته، وأخيرا تمت طباعة قصائده الأولى تحت عنوان «قرد» ساعده نيكولاي كرامزين مؤلف «التاريخ العام لروسيا منذ أقدم العصور حتى 1611»، وهو كتاب من اثني عشر مجلدا. بفضل هذا التشجيع، سيندفع بوشكين كالطائر مدبجا مئات الأوراق من الشعر، والمسرحيات والقصص القصيرة. وفي سنة 1822، ستظهر أعماله الشهيرة «سجين القوقاز»، وفي العام التالي بداية «أوجين وأونغوين» التحفة التي لم تكتمل أبدا. وبعدها «بوريس غودونوف» أصيب بوشكين بالجدري وانخرط في المبارزات، يستعرض نزقه في الصالونات، يترك أظافره تنمو بشكل مبالغ فيه. ويضع فوق خنصره غطاء ذهبيا، يبحث عن المعارك، ويراكم الديون لا يغض الطرف عن أية إهانة، لا يهضم أي ازدراء، وعلى الفور، يلجأ إلى المبارزة. كان بوشكين سياسيا مترددا بين المؤامرة والطاعة. تارة يتآمر ضد نيكولا الأول، وتارة يطلب الهبات المالية. هو في آن واحد وقح ومتكبر وخنوع ومتذلل. ولفرط تمرده وتيهه سينضم إلى جماعة سرية تدعى» المصباح الأخضر»، يحضر اجتماعات الاتحاد من أجل الرخاء. في هذه الفترة يصدر"قصص النار إيفان بتروفيتش بلكين»، و«ابنة القبطان»، وخصوصا «سيدة البستوني». هكذا واصل بوشكين حياته الصاخبة بين الوداعة حينا والتمرد حينا آخر، لكن الشاعر سيرتكب الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه، سيتزوج نتاليا نيكولايفنا منشدا: «فلتحي الشمس! وليمت الليل!»، كانت نتاليا في التاسعة عشرة وتتمتع بجمال باهر ومثير. كانت ثقافتها سطحية تحب الحفلات والصالونات وتقضي سحابة يومها لدى الخياطين. كانت تستمتع بالمجاملات وتستميلها المداعبات. وكان القيصر وماركيز دوكوستين يداعبانها بالمجاملات، بينما بوشكين يغض الطرف محاولا إرضاء القيصر لتسديد ديونه الكثيرة. في هذا الوقت بالذات، كان قادم جديد يشد الرحال إلى موسكو. إنه جورج شارل الأنتيسي. ابن صانع حراب البنادق، ينحدر من إقليم الألزاس. كان مترددا بين الانضمام إلى الجيوش الفرنسية أو الالتحاق بالحرس الروسي. في أحد البنسيونات، سيلتقي البارون لويس فان هيكرين (وزير هولندي مفوض). كان عازبا في الأربعين. ستنشأ بينهما صداقة وثيقة. في موسكو، سيسطع نجم الشاب الفرنسي الجديد في الحفلات الراقصة. وسريعا سيصبح فارس الرقصات. لم تكن نتاليا في منأى عن هذه الجاذبية المدمرة. في بترسبوغ بدأت الإشاعات تنتشر عن علاقة بين نتاليا والشاب الفرنسي. سيصاب بوشكين بحمى الغيرة، فيسعى إلى استفزاز الأنتيسي إلى مبارزة حاسمة. في 27 يناير 1837، سيشتري مسدسات من بائع السلاح كوراكين. متذكرا نبوءة العرافة، سيرتدي بزة الحرس البيضاء ويستعد للموت. كان موت أعظم شاعر روسي وشيك خلال مبارزة حمقاء في 8 فبراير 1837. بحيث أن نتائجه كانت رديئة وبلا قيمة تذكر: خسارة أدبية كبيرة؛ لأن بوشكين كان يتمتع بعبقرية إبداعية خارقة. زواج نتاليا بعد فترة حداد قصيرة من جنرال الجيش الروسي بيير لانسكوي. طرد الأنتيسي من روسيا والتحاقه بجيوش لويس نابليون بونابارت. ولقاء الخدمات التي قدمها سيعين سناتورا سنة 1852. سيحقق ثروة كبيرة من خلال تأسيسه لشركة للغاز. ومع ذلك، فالخسارة لم تكن فادحة كليا؛ لأن بوشكين حقق بشمسه الشعرية المتدفقة امتدادات شعرية في روسيا وخارجها. كانت قصائده ورواياته ومسرحياته وحتى يومياته العلنية والمحظورة مشتلا دائما لتوليد طاقات إبداعية أخرى.