سجلت أسعار الذهب العالمية مستوى قياسيا الاثنين الماضي بملامسته لمستوى 1111 دولار للأوقية.. وهو مستوى يزيد عن مستواه في 2007 بنسبة 59.5% ويرتفع عن مستواه في 2005 بنسبة 149.5%.. ومنذ بزوغ الأزمة العالمية دخل الذهب إلى دائرة الضوء ما بين مؤيد له في ضوء ضعف الدولار وما بين مشيد به كمخزن للقيمة وغيرها.. الأمر الذي أصبح يثير الكثير من التساؤلات حول هل فعلا بهذا الصعود لا يزال الذهب الملاذ الآمن للاستثمار أم أنه شكل فقاعة يمكن أن تتسبب في خسائر هائلة للمستثمرين والمستخدمين؟ لماذا يقتنى الذهب؟ منذ آلاف السنين نال الذهب اهتمام المجتمعات ويعد المعدن المفضل لدى الجنس البشري، ويتصف بكونه منتجا عالميا، ودليلا للثراء فقد ارتبط منذ القدم بالمرأة والصناعة والرقي الاقتصادي. لذلك، فقد يصعب معرفة لماذا يقتنى الذهب بوجه عام، فلا يوجد دافع واحد، ولكن لكل فرد دوافعه الخاصة.. ومنذ القدم تم اقتناء الذهب لتزيين المرأة أو لإثبات ثراء الرجل أو الدولة.. إلا إنه خلال العصر الحديث بدأت تطغى دوافع ومبررات أخرى مستحدثة لاقتناء الذهب.. فهناك من يقتنيه بدافع أنه ملاذ آمن للقيمة، حيث إن البعض يعتبره الوعاء الأكثر أمانا في أوقات الأزمات وعدم الاستقرار.. كما أن هناك من يقتنيه لتنويع محافظ الاستثمار بحيث تبتعد عن التركيز على الأصول المالية التقليدية مثل الأسهم والأوراق المالية الأخرى عالية المخاطرة.. أيضا هناك دافع الاقتناء بدافع الحماية من التضخم، وخاصة أن الذهب على المدى الطويل يحتفظ بقوته الشرائية.. كما أن هناك دافع الحماية من تقلبات الدولار. بزوغ الذهب الخردة كمصدر رئيسي لتلبية الطلب المتزايد تتعدد مصادر الحصول على الذهب، وتتمثل أساسا في إنتاج المناجم والتي يصل عددها إلى حوالي 400 منجم في العالم ويصل إنتاجها إلى حوالي 2500 طن سنويا.. ثم يأتي بعدها البنوك المركزية، حيث تحتفظ الحكومات بنحو 10% من احتياطياتها في شكل ذهب، ويوجد نحو 110 بنك مركزي يحتفظون بنحو 29 ألف طن تقريبا.. ثم يأتي الذهب الخردة أو المعاد استخدامه في المرتبة الثالثة في إجمالي معروض الذهب بكمية وصلت إلى حوالي 1212 طن في عام 2008م.. حجم الطلب على الذهب بلغ 106 مليار دولار في 2008م وصل حجم الطلب العالمي على الذهب في 2008م نحو 3804.4 طن بقيمة بلغت حوالي 105.8 مليار دولار، منها حوالي 61.1 مليار دولار بغرض المجوهرات، وحوالي 12.3 مليار دولار بغرض الصناعة، وحوالي 32.5 مليار دولار بغرض الاستثمار.. ويعتبر السوق الأمريكي الأكبر للمجوهرات على مستوى التجزئة، بينما يعد السوق الهندي المستهلك الأكبر من حيث كمية المبيعات، حيث تساهم 26.3% من إجمالي الطلب في 2008م. بلغ حجم استهلاك السوق السعودي من الذهب في 2008 نحو 122.4 طن بقيمة بلغت حوالي 3.4 مليار دولار وقد أنفقت غالبية هذه القيمة على المجوهرات بقيمة وصلت إلى حوالي 3.1 مليار دولار.. أي أن نسبة 89.3% من الطلب السعودي على الذهب هو بغرض المجوهرات، في حين أن نسبة 10.7% هو طلب لأجل الاستثمار أو الصناعة. الارتفاع الهائل في مستويات الأسعار.. لماذا؟ المتتبع للتطور في الطلب على الذهب يلحظ أن أعلى طلب جاء في النصف الثاني من 2008، وهو النصف الذي شهد أعلى مراحل تطور الأزمة المالية، والشيء المستغرب أن هذا الطلب جاء بغرض الاستثمار، حيث ارتفع طلب المستثمرون على الذهب من نحو 179 طنا في النصف الثاني من 2007 إلى 617 طن في النصف الثاني من 2008، أي زاد الطلب العالمي على الذهب بغرض الاستثمار خلال هذه الفترة بنسبة 245%.. وهذا الطلب تسبب في بدء تضخم كبير مستمر ومتواصل في أسعار الذهب.. ويمكن تفسير هذه الزيادة في الطلب بمخاوف الأزمة العالمية وضعف الدولار. الفقاعة واشتداد المضاربات في سوق الذهب إذا كان الصعود السعري له ما يبرره في 2008 نتيجة الأزمة العالمية ونتيجة انخفاض المعروض عن حجم الطلب، فإن الصعود الكبير في 2009 لأسعار الذهب (سجل 1111 دولارا الاثنين الماضي) غير مبررة، وبخاصة في ظل الزيادة المستمرة في حجم مبيعات البنوك المركزية من الذهب، والتي أدت إلى زيادة حجم العرض والذي أصبح يفوق مستوى المطلوب منذ بداية 2009.. فالآن يوجد فائض عرض يعادل 207 طن من الذهب، ورغم ذلك فالسعر العالمي مستمر في الزيادة.. فالذهب غالبا بات يخضع لمضاربات شديدة نتيجة المضاربة عليه كملاذ آمن للاستثمار. المسار بعيد المدى لتوجهات الاقتصاد العالمي أصبح تضخمي صاعد يتخلله بعض فترات الركود قصيرة المدى.. أيضا أصبح المسار بعيد المدى للدولار هابط، من هنا فقد أصبح المسار بعيد المدى لأسعار الذهب صاعد ويتفوق الذهب على كافة أوعية الاستثمار الأخرى بأنه ليس ملاذ الأفراد المستثمرين فقط، ولكنه ملاذ الحكومات أيضا.. ولذلك، فإنه يكتسب مزايا استثمارية فريدة عن غيره من أوعية الاستثمار، فأسواق الأسهم قد تنهار وقد تسعى الحكومات أنفسها إلى القيام بتصحيح أي فقاعات تنتابها.كذلك السندات قد تضحي بها حكومات الدول، فقط الذهب الذي لا يمتلك أي مخاطر مشابهة نتيجة احتفاظ كافة الدول باحتياطيات منه.. فالذهب مخزن آمن للقيمة، وأصبح مؤخرا يحقق عوائد تفوق العوائد المتحققة من أي وعاء استثماري آخر.. فكل فرد كان يمتلك ذهبا منذ بداية 2008 يكون قد حقق ربحا يعادل 60% في اليوم، أي بمعدل 30% سنويا، وهو معدل مرتفع ويفوق مستويات أسعار الفائدة على الودائع البنكية في أي دولة بكثير.. ويعتبر الانخفاض الكبير في أسعار الفائدة والتي أصبحت تقترب أو تعادل الصفر في كثير من الدول من أكبر الدوافع للطلب على الذهب بدافع الاستثمار.. لكل ذلك، فإن الذهب لا يزال ملاذا آمنا للاستثمار، وقد تشهد الفترات القادمة شبه عودة للذهب ليس كملاذ آمن للأفراد فقط ولكن كعملة العملات أو كقاعدة للاقتصاد العالمي من جديد. (*) اعتمد هذا المقال على بيانات تقرير الربع الثاني للمجلس العالمي للذهب. د. حسن الشقطي محلل اقتصادي