في المقالة السابقة خلصت إلى ضرورة وجود مؤسسة فكر سعودي قادرة على احتضان المفكرين في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية وإطلاق طاقاتهم الإبداعية لدعم صُنَّاع ومتخذي القرار في بلادنا.. هذه المؤسسة تُمَكِّن هؤلاء المفكرين من الاستفادة من المنهجيات العلمية في جمع البيانات والمعلومات والمعارف وتحليلها واستخدامها في التشخيص وطرح الحلول الابتكارية الناجعة التي لا تغفل متغيراً واحداً مهما صغر وقَلَّ أثره. وباستقراء واقع القطاعين الحكومي والخاص نجد أن بلادنا تفتقر إلى هذه المؤسسات الفكرية الحاضنة والتي يجب أن تشكل مرجعاً فكرياً في الظروف العادية والاستثنائية على حد سواء.. كما نجد أيضاً أن معظم مؤسساتنا الحكومية والخاصة لا زالت غير مدركة لأهمية وجود مثل هذه المؤسسات وترى في الصرف على الجهود الاستشارية الفكرية نوعاً من التبذير لأنها منتجات غير ملموسة (عادة ما تكون محددات وموجهات نشاط).. وبالتالي فهي تفضّل الصرف على ما هو مادي وملموس. من هذا المنطلق أحجم القطاع الخاص عن التورط في استثمارات من هذا النوع لأنها غير مجدية اقتصادياً.. وبالتالي أصبح لزاماً علينا التوجه للأجهزة الحكومية القادرة على تبني هذا النشاط الاقتصادي الهام والحيوي.. خاصة ونحن نعيش اليوم عالماً متسارع التغيّرات يستدعي إمكانيات رصد دقيقة ومستمرة وقدرات تحليلية وتشخيصية متطورة مدعومة بفريق تفكير ابتكاري متخصص قادر على طرح الحلول الناجعة وتطبيقها في بيئتنا بما يمكننا من التطور المستمر من خلال اغتنام الفرص وتجنب المخاطر . ولعل أفضل الأجهزة الحكومية جاهزية لإنجاز هذه المهمة هي مراكز ومعاهد البحوث والدراسات والخدمات الاستشارية في الجامعات.. والتي بدأت وزارة التعليم العالي مشكورة بتفعيل دورها في دعم صانعي ومتخذي القرار الحكومي ومنفذيه من خلال استثمار الطاقات الفكرية المتاحة في الجامعات السعودية.. وقد بدأت هذه المراكز والمعاهد نشاطها بفكر اقتصادي (حيث تحولت من مراكز تكلفة إلى مصادر ربح) بالتعاقد مع كثير من الجهات الحكومية لإجراء الدراسات وإعداد الخطط الإستراتيجية والإشراف على تطبيقها. هذه قاعدة أكثر من ممتازة للانطلاق في تأسيس وتطوير الحاضنات الفكرية (THINK TANKS).. ولكن يؤخذ عليها أن معظم العاملين فيها هم من أساتذة الجامعات الذين يغلب عليهم الطابع الأكاديمي أكثر من الطابع المهني.. حيث تطغى عليهم معرفة (ماذا؟) أكثر من معرفة (كيف؟) لعدم أو قلة الممارسة المهنية.. وبالتالي فإنني أعتقد أن هذه المراكز والمعاهد ستصبح حاضنات فكرية متكاملة إذا استعانت بالمممارسين في الميدان حتى وإن كانوا لا يحملون الشهادات، وكلنا يعرف الشيخ سليمان الراجحي وإنجازاته وهو لا يحمل شهادة.. ولكن بكل تأكيد لو أنه ساهم في إعداد خطة أو أشرف على تنفيذها لأصبح الفارق كبيراً دون أدنى شك.